مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المركز الأول: تضاريس الخوف بقلم/ د.عبد المجيد المحمود (سوريا)

المركز الأول:
تضاريس الخوف
بقلم/ د.عبد المجيد المحمود (سوريا)
صراخُها العالي يشقُّ صدرَ الليل...
في قريةٍ صغيرةٍ يستطيعُ مثلُ هذا الصوت أنْ يوقظَ الموتى القابعين في قبورِهِم...
تراكضَ أهلُ القريةِ، القريبُ و البعيدُ يستطلعون الأمر... بدَتْ شاحبةً، متعرِّقةً، تلهثُ بشدَّةٍ، بالكادِ تستجمعُ أنفاسَها… حاولَتِ النِّسوةُ تهدِئَتَها، جلسْنَ بجانبها، قدَّمْنَ لها أكواب الرَّوعِ، بينما أخذَتِ الجماهيرُ تحتشدُ في ساحةِ الدَّارِ.
الفضولُ يدفعُ الجميعَ للوقوفِ بملابِسِهم الخفيفةِ، تحتَ وطءِ ريحٍ باردةٍ ـ جلبَتْها ثلوجُ الجبالِ المحيطةِ بالقرية ِـ يريدونَ استقصاءَ الموضوعِ.
مرَّتْ دقائقُ صعبةٌ قبلَ أن تتمكَّنَ حسنةُ من النطقِ: نعم... نعم... لقد رأيتُهُ، لقد كانَ ضخماً، بعينينِ صغيرتينِ مخيفتينِ، و أذنينِ قصيرتينِ، و ظهرٍ محدودبٍ، و ذيلٍ مدبَّب…كنتُ خارجةً لقضاءِ حاجة... لقد كانَ ضبعاً مخيفاً... أحسستُ أنَّهُ سيقفزُ عليَّ ليقطِّعَني إرباً إرباً.
دهشةٌ عارمة تقفزُ إلى و جوهِ الحاضرين، و شحوبٌ يعتريهم… يسودُ صمتٌ بارد، يكسِرُهُ صوتُ مختارِ القريةِ الذي جاءَ متاخِّراً قليلًا، و قد تناهتْ إلى مسامعِهِ أطرافُ الحديثِ.
ـ لا بدَّ أنَّكِ تهذينَ يا ابنتي، ربما هو مجرَّدُ كلبٍ شارد ـ من تلك التي تكثر في الشِّتاءـ أو ربما هو حلمٌ مزعجٌ… منذُ زمنٍ بعيدٍ لم يعد للضِّباعِ وجودٌ في مناطِقِنا...
ـ لكنَّني أقسمُ إنَّني رأيتُهُ... لستُ صغيرةً و أستطيعُ تمييزَ الكلبِ من الضَّبعِ.
ـ هدِّئي من روعِكِ... وحِّدي اللهَ و صلِّي على النَّبي... أنتِ امرأةٌ رزينةٌ، فلا تبعثي الرُّعبَ في قلوبِ النَّاس ـ في هذا الوقتِ المتأخِّرِ من الليل ـ لمجرَّدِ أوهامٍ أو شكوكٍ لا أكثر.
عادَتْ حسنة لتدخلَ بيتَها الطِّينيَّ الصَّغير، تُتمتمُ بأشياءَ غيرِ مفهومة، تهزُّ رأسَها كمنْ أصابَهُ المسّ.
و كعادةِ أهلِ القريةِ في احترامِ كلامِ المختارِ؛ صمتَ الجميعُ، مصدِّقينَ أنَّ ما حدثَ لحسنة، هو بعضُ تهيُّؤاتٍ ليسَ إلَّا.
تابعَ المختار كلامَهُ: هيَّا… هيَّا لينفضَّ الجمعُ، إنّهُ أمرٌ بسيطٌ، و قد انتهى على خير... ليذهبَ كلٌّ إلى بيتِه... الصَّباحُ رباحٌ إن شاءَ الله.
في اليومِ التَّالي أرسلَ المختارُ يطلبُ كبارَ رجالِ القريةِ... كانتْ مضافتُهُ تغصُّ بالحضور… تشاوروا حولَ موضوعِ الضَّبعِ… بنهايةِ الاجتماعِ و بموافقةٍ جماعيَّة يُعلنُ المختارُ ـ كما جرتِ العادة ـ الحلَّ: على الجميعِ التزامَ بيوتِهم ليلاً، و عدمَ الخروجِ تحتَ أيِّ ظرفٍ كان… ثمَّ أردفَ قائلاً: أنتم تعلمونَ قصَّةَ الضَّبعِ، الذي قضى على عشرةٍ من أفرادِ القريةِ قبلَ خمسينَ سنةٍ، لا نريدُ أن نكرِّرَ المأساةَ… ثمَّ إنَّنا لا نستطيعُ أن نعتمدَ على كلامِ امرأةٍ كما تعلمونَ أيُّها الرِّجال.
علاماتُ الرِّضا عن هذا القرار، بدَتْ واضحةً على وجوهِ الحضور... راحوا يتهامسونَ: نعم... نعم... هذا هو الحلُّ الأمثل، إذا أردنا أن نحفظَ أبناءَنا و أهلَنَا.
مضتْ بضعةُ أيَّامٍ، و الجميعُ ينعمونَ بالطُّمأنينة، حيثُ تصبحُ القريةُ مساءً خاويةً على عروشِها، بيدَ أنَّ هذا النَّعيم لم يدمْ طويلاً، حيثُ بدأَتْ تدورُ خلفَ الأبوابِ أحاديثُ عن مشاهدةِ الضَّبعِ، يجولُ نهاراً ـ و ليسَ ليلًا فقط ـ في بعضِ الشَّوارعِ، حتى بلَغَتِ الحيرةُ و الخوفُ منْ أهلِ القريةِ كلَّ مبلغٍ.
اضطرَّ المختار لعقدِ اجتماعٍ جديدٍ لتداولِ الأمرِ، أخذَتِ الأصواتُ تعلو، و الاقتراحاتُ تتوالى لإنهاءِ المشكلةِ و التَّخلُّصِ من ذلكَ الرُّعبِ الذي غزَا الكبارَ قبلَ الصِّغار…
أخيراً قرَّرُوا قرارًا خطيرًا… لا بدَّ مما ليسَ منهُ بدٌّ... فصورةُ المأساةِ السَّابقةِ تسيطرُ على تفكيرِ الجميعِ... إنَّ الرَّحيلَ عن القريةِ هو الحلُّ الأنجعُ و الأمثلُ للحفاظِ على الأرواح، فقد يكونُ هذا المتوحِّشُ، من سلالةِ ذلك الذي فتكَ بعشرةٍ من الرِّجالِ، قبلَ خمسينَ سنةٍ، و رغمَ أنَّ تلكَ القصَّةَ لا يذكرُها سوى المختارُ فقط، إلَّا أنَّ أهلَ القريةِ يؤمنونَ بها كما يؤمنونَ بالقرآن.
في تلكَ الليلة، و بينما الرِّيحُ تهبُّ بشدَّةٍ، و الثَّلجُ يتساقطُ بغزارةٍ، و الخوفُ يتراقصُ خلفَ الأبوابِ، نهضَ حطَّابٌ فقيرٌ، على جَلَبَةٍ في أرضِ دارِهِ، فتحَ النَّافذةَ، ليرى ذلكَ المُرعبَ يتبخترُ، باحثاً عن فريسةٍ يُدفِّئُ بدمها أوصالَهُ، فتحَ البابَ… حدَّقَ كلاهما ببعضٍ، كانتْ بندقيَّةُ جدِّهِ تلمعُ بينَ يديهِ، فقد كانَ حريصاً دائماً على الاعتناءِ بها، مُحدِّثًا نفسَه: سيأتي اليومُ الذي أحتاجُها فيهِ… على مهلٍ مَشَيا باتِّجاهِ بعضِهِما، كانَ يسمعُ لهاثَ الضَّبعِ، و تتناهى نبضاتُ قلبِهِ إليه… فجأةً ثبتَ في مكانِه؛ لمَّا رآهُ يركضُ بسرعةٍ نحوهُ… حملَقَ فيهِ بصرامةٍ، و فيما الضَّبعُ يَثِبُ نحوَهُ أطلَقَ الحطَّابُ الرَّصاصةَ الوحيدةَ التي يحتفظُ بها منذُ زمن، لمْ تخطِئِ الرَّصاصةُ الرَّأسَ، ليسقطَ ذلك المفترسُ الضَّخمُ صريعاً بلا حِراك.
لم يكنْ في نيَّةِ ذلكَ الحطَّاب إزعاجَ أهلِ بلدِهِ، لكنَّ فخرَهُ بصنيعِهِ جعلَهُ يزأرُ كأسدٍ شَرِسٍ، أيقظَ صوتُهُ الجدرانَ، لكنَّ من خلَفَها ظلُّوا نياماً بناءً على توصياتِ مختارِهِم… أمَّا هو فقد ظلَّ قابعاً بجانبِ صيدِهِ الثَّمين…
في الصَّباحِ، وقفَ في الشَّوارعِ يدعو أهلَ القريةِ لرؤيةِ الضَّبعِ المُجنْدَل، إلَّا انَّ أحداً منهم لم يأبَهْ بهِ… الكلُّ كانَ قدْ حزمَ أمتعتَه، و أخذَ معهُ ما خفَّ حملُهُ و غلا ثمنُه... و أمامَ ناظريهِ تتابعَتْ قوافلُ الرَّاحلينَ تمرُّ إلى اتِّجاهاتٍ شتَّى.