بقلم: عبدالله مشاري الحسيني (الكويت)
هأنذا أجلس أخيراً خلف الطاولة التي سمعت عنها
كثيراً، و تمنيتُ أن أجلس عليها كثيرا، لكن لم تكن كما تصورتها بالضبطــ، إذ وجدتُ
صبياً آخر يشاركني إياها، لكن لا بأس فلكل منّا مساحته الخاصة.
أخرجت كتبي، التي استلمتها للتو من الصناديق
الكرتونية في خارج المخيم، و وضعتها أمامي على الطاولة، و بجابنها أبرزت قلمي
الحبر، الذي كنت سعيداً به؛ فهذه هي أول مرة في حياتي أحصل عليه.
دخلت علينا امرأة طويلة ترتدي حجاباً أبيض،
تبدو باسمة، يبدو أنها ستكون معلمتنا، تمشي أمامنا و هي تتفحص وجوهنا مبتسمة، وقفت
أمام السبورة، ألقت علينا التحية، فرددناها بصوتٍ جهوري واحد "و عليكم السلام
و رحمة الله وبركاته"، كعادتنا. بدت مرتبكة، متوترة، لم تعرف من أين تجمع
كلامها!:
ـ أنتم تعرفون أن هذا أول يوم دراسي لنا في
مخيم "السنا"، و أنه تم تأسيسه بواسطة أموال الدولة الشقيقة، فصفقّوا
لها، و اطلبوا من الله أن يحفظها و يحفظ قائدها.
صفقّنا، ثم انتبهت أن هناك امرأة ترتدي
لباساً أبيض فيه هلالاً أحمر، ابتسمت و انحنت تحييّنا فور تصفيقنا، عرفتُ لاحقاً
بأنها كانت مندوب تلك الدولة للإطمئنان على سير العمل.
ابتسمت المعلمة، قالت متنفسة الصعداء، كأنها
أنجزت شيئاً كان يجثم على صدرها:
ـ و الآن، نبدأ درسنا.
استدارت إلى السبورة خلفها، بدأت تخط
بالطباشير على السبورة، يا الله، كم يزعجني صوت تلك الطباشير و هي تخطّ على
السبورة، تثيرني داخلياً، تنقلني إلى ذكرى لا أود أن أنتقل إليها بتاتاً، لكنني ـ
رغما عني ـ أنتقل!، تصل بي الذكرى إلى حين الدويّ العظيم الذي صار في شارعنا ذاك،
إلى تلك الشوارع الميتة، إلى تلك البيوت المشرّعة أبوابها، إلى الجثث المترامية
على الأرض، التي كنا نمشي بجانبها بحذر خوفاً من أن ندهسها بأرجلنا، إلى الركض في
الشوارع خوفاً من صوت غارة جوية نسمعها قريباً منّا، و تطول القائمة و لا تنتهي،
نحن من كنّا ننتهي!
يُرجعني صوت بكائي إلى ما أنا عليه، إلى
الفصل الذي أجلس فيه، إلى الصبي الذي يقاسمني الطاولة، و المعلمة التي وجدتها
بجانبي، بدلاً من شخبطتها على السبورة بقذائفها الطباشيرية عليّ.
جاءتني راكضة، رامية الطباشير على الطاولة،
مدّت ذراعيها فور ما اقتربت مني، فاندسست بين أحضانها و دموعي الصامتة تهطل منّي.
ما زلت أشعر بحنانها و دفء حنانها حتى تلك اللحظة، غمرتني به رغم أنها ما كانت
تمسك بيديها حناناً قبل قليل!
ـ ما بك يا ولدي؟
خرجتْ منها عذبة، موسيقية، كأنها تتلاعب
بنغمات الحنان على وتري.
ـ أخاف من صوت طباشيركِ.
أخفضت نغمة حنانها.
ـ تخافها؟ لماذا؟!.
صوت الطباشير قادمٌ الآن، أكاد أسمعه، بل
جميعهم كادوا أن يسمعوه، بل سمعوه! هل باتت ذاكرتي مفتوحة إلى هذا الحد؟!؛ جاءت
الطباشير، أسرع مما كنت أظن أنه بعيد، صوتها جاء أزعج مما كنت أتذكّر، أكثر دوياً،
اهتزّت الأرض من حولنا، اختبأنا تحت الطاولات صارخين خائفين، تداخلت أصواتنا
بأصوات بعض "أريد أمي، يااا رب، سوف نموووت"؛ انفجرت الطباشير بعيداً
عنّاـ مخلّفة لنا صوتاً سُيجبل في خانة ذكريات العام الدراسي الأول لنا. عاد كل
شيء كما كان، اختفت الاهتزازات، و هدأت الطباشير، لكن لم نعد نحن كما كنّا.
خرجنا جميعاً من فصولنا راكضين، الطالب فينا
الذي كان متحمساً لهذا اليوم الدراسي الأول، ما عاد متحمساً. و المعلمة ما باتت
تحلم بتربية الأجيال، عوضاً عن التفكير
كيف ستحمي نفسها من ثورة تلك الطباشير!.
الأمهات و الآباء و كل من يقبع داخل تلك
المخيمات رأيناهم يركضون إلينا هرعين، و نحن نهرع إليهم. هذه أم سقط حجابها من على
رأسها و لم تبال، تبحث عن ولدها بعيون كادت أن تسقط من رأسها لفرط ما اتسعت، و هذا
أب يغالب ألم رجليه كي يصل و يحمل ابنه أو حفيده الصغير فيعود به. و هذه طفلة تبدو
تائهة بين الجموع تبحث عن شقيقها لتطمئن بأنها ستلعب معه بعد قليل!.
خالفتُ الجمع و ذهبت راكضاً إلى أستاذ محبوب،
حسبما عرفت لاحقاً بأنه كان مشرفاً على مخيمنا. رأيته واقفاً في مخيمه القريب من
مدخل المخيمات و من تلك المدرسة التي كادت أن تكون قبرنا. رمقني من البعيد، فاقترب
مني راكضاً بقدر ركضي إليه، وصلت إليه و أنا ألهث، جثا على ركبتيه حتى أصل إليه،
قال لي:
ـ هل أصابك شيء؟
أخذتُ نفسي بشق الأنفس، قلت مشيراً إلى تلك
المدرسة الصغيرة التي كنا فيها للتو.
ـ كدنا نموت.
رأيتُ في عيونه السؤال، و الخوف الأبوي، هز
رأسه بحزن، عيونه التي لم يسقطها عني تتفاعل معه، كأن كل ما فيه حزيناً لأجلي.
استطردت مواصلا:
ـ أين أمي؟ أريدها.
انقلب فجأة، أخذ يقلّب ببصره يميناً و
يساراً، يتحاشى النظر إليّ. لم أعلم هل بدا حزينا أكثر أم خائفاً أكثر، اجتمعت
المشاعر عليه، و أنا فوقهنّ كذلك! خرج
صوته متهدجاً، متصنّعاً ابتسامة لم تشبه الابتسامة:
ـ الآن؟
هززت رأسي بإصرار؛ أشار لي بيده نحو طرفٍ ليس
بقريب و لا ببعيد عن الخيام؛ ذهبتُ راكضاً، لم ألحظ بأنه كان يمشي خلفي أبداً،
وصلت إلى ما أشار إلي، وجدت أمي، كما هي تماماً. اقتربت منها قليلاً، انفجرت
منتحباً:
ـ أمي، كدت أن أموت للتو. لم أعد أريد
الدراسة، لم أعد أريد الألعاب، لم أعد أريد شيئا، أريد أن أعود كما كنا فقط،
والله، أريد ذلك، والله!
دون أن أشعر، ارتميت عليها عجلاً، كعجلة ما
مر في سنوات طفولتي المفزعة تلك. لم أسقط إلا على تراب، و لم أستمع من مواساة إلا
صمت هذه البقعة الترابية، و لم أنته إلا عندما اصطدم رأسي بالطابوقة المثبتة على
تلك البقعة الترابية!