(المركز العاشر)
عندما يطفؤ
الحلم
الكاتب/ مهند يحيى حسن (العراق)
أصبح من الصعب أن تدرك شيئاً، لكنها في اللحظة التي تسبق الاختناق,
استطاعت أن تميز صوتها من بين حشد أصوات الإطلاقات المتنافرة: هادئاً هدوء الموت,
ثائراً،عنيفاً؛ تمطى كل شيء بعد ذلك بوجل هارب و مفزع.
انتزعت نفسها من فرن الأصوات الهادرة، لم تعد تتذكر تسلسل الحركة، و لا
أشكال الوجوه وفزعها، و هم يفرغون فيها وابل الرصاص.
لم تعد تميز من معالم وعيها المفرغ سوى شارع طويل تجري فيه بلا هوادة
كحصان مجروح هائم بين حراشف الأشجار و رفات صخور نامت عليها أوراق الخريف.
... شارع متسق الأبعاد, يطويه الفراغ المظلم، ينتظر قدومها بفارغ
الصبر ليغرقها في دثاره الأثيري، الضبابي المظلم...
شارع لا يتنفس إلا بوقع قدميها الصارختين و هي تحمل ثقل الجسم، و كومة
أحزان محمولة في سلة سندان عقلها المرهق...
ـ (هذا الصمت يرعبها و يحذر شغفها للتذكر؛ يبلعها ككفن مفروش، كجراد
متناسل في حقل لا متناهي...)
وقع أقدام تتقدم برتابة فتبتلع السكون, تتقدم لتنهشها و تغرقها في
لهاث متدحرج, تتحرك، تتحرك؛ حاصرتها ملوحة عند الحلق، تخنقها رغبة تكاد تغتصب صرخة
مكبوتة في دهاليز حنجرتها المرتجفة، ترتعش، تتمزق أسارير وجهها... في لحظة أدركت
بمجسات عقلها الظامئة أن الحزن و الخوف هما الهاجس، و الحقيقة المرة الوحيدة في
حياتها... إنهما شغلها الشاغل، من يدري لعلهما المتاهة الوحيدة المتبقية لتتيه في
مجاهلها.
- ( كل الحقائق كاذبة، كل شيء يكمن فيه خطأ ما... كل شيء)
الخطوات تتبعثر مع التعب المتسلل بانتشاء في جسدها الضامر المرهق؛
بدأت تحس بثقل جسمها يتزايد, يثقل, يتواثب؛ فيسقط على قارعة رصيف مكسورة, تهالكت, تمددت
اليدان مثل غصنين طريين, تقوس ظهرها على هيئة علامة سؤال... فوران دائم يشق جبهة
الصدر بوجوم متوحش؛ تتقاذف نفسها كمنجل يترنح بين أعناق سنابل متكاسلة...
- (ما الذي حدث لهذا العالم، تصرخ مهتاج : أبي اتركوه, لا تطلقوا عليه
النار... لا)... ضياع أبدي في رحم عالم أخرس. جسد أخر يتماوج من وقع معاول الرصاص
المتراشق؛ يغيب في سنادين الذاكرة ثم ينهض ليلحقها في سباق هستيري، يدنو، ويدنو،
ثم يتلاشى في الفراغ.
يعلو صوت وليدها مبتدئا ًمن ثغرة التلاشي، يتلمس تضاريس ذاكرتها
المتهشمة, يدغدغ صمتها السجين صوت مفجع, كأنغام مزمار مشروخ؛ حاصر أذنيها, تغلغل
في مسامات عقلها الإهليلجي و أقفل المسارب عليها.
صوت زوجها و صورته تغلف كل الموجودات بلون واحد لا تعرفه؛ خليط أحمر اختلط
برائحة البارود الأسود، وجه يعبس، يطبق على شفتيه دم أحمر دافئ يجري كنهر تحت
السرير المهترئ يتقيأه جسده الممزق... انتفضت كل مشاعر الغضب من صدرها، اعتقدت
أنها تستطيع أن تنهض الشمس من مهدها لتزيل ظلام ليل دام... تتسارع الخطوات بالقرب
منها, تدور معها نبضات مخنوقة, يتجمد وجهها مفزوعاً مرة أخرى؛ كادت حنجرتها تفلت
من مدار حلقها الجاف.
الدائرة تضيق: الصوت، الوالد, الطفل, الزوج, الوحش القاتم, الرشاش
المدوي, المنصة تهتز,العقل يشتعل بإيقاع رتيب و متصاعد, ترتجف الأوصال , تحتضر
الهمهمات؛ تحاول الوقوف,لكن خوفها أصابها بالشلل، يزرعها, يذلها كطائر فقد جناحيه
بين الغيوم... دائرة الأصوات تقترب, و أصوات الرشاشات تستشيط, الأفق يخيطها بين
لحظات السكون, يثبتها كي لا تنساب من مكانها كأخطبوط أخرج إلى اليابسة من الماء؛
تغوص في مخاض هستيري, تحاول الوقوف، ثم... (طاخ... طاخ) أصداء تتكرر في مشيمة
ذاكرتها القلقة, تلفظها إلى رحم المجهول, يخيم سكون ثقيل يحيط به صرح خاو ٍكرجع النبض
يلتف متشرنقاً بحبل متين؛ بهتت الألوان, و اختلطت الأصوات بوابل من الصور: المنصة
تهتز, الفنجان يتشظى, حشرجات تعلك همساتها. تدلي عقلها, تثبت جسمها كمسامير صدئة
على قارعة الطريق... كان صوت النبض في دمها يتململ, و يتمدد بشكل جديد لم تألفه؛
يتشكل جنيناً, يستعذب صرخته الأولى, يختلط بصورة والدها و هو يحملها لأول مرة,
بصورة زوجها و هو يضمها لأول مرة, بصرخة وليدها و هي تعانق ثغره لأول مرة؛ تتلاشى
أوجاعها في أخدود و مسارب ذاكرتها الخاوية, يرتفع الجسد الممدد قليلاً ثم تشرئب
الرقبة في سباق هستيري نحو مساحة ضوء نازفة من مجاهيل الغيب...
- (آه... آه أريد أن ألامس زهرة والدتي بيدي الراعفة حد الانكفاء...
ضميني بين وسادات أياديكِ و أطفئي صرير النزف المؤجل في حنايا روحي المكممة
بالسراب، أقبلي إليّ فأنا في انتظار لمستك الحانية... آآآه.).
و بهدوء أبتلعها حوت السكينة للمرة الأخيرة, رفرفت روحها بعيداً عن
جسدها سابحةً في الأفق رغم كثافة الهواء, و انتهت لعبة الأصوات بمبضع القساوة و الدموع..
و ألقيت ورقة أخرى في مخافر شرطة هذا البلد ضد مجهول.