المنبوذ
بقلم: تامر كامل حسين محمد (مصر):
لقد خدعتني زوجتي عندما انتقلت إلى الرفيق الأعلى و تركت لي طفلا رضيعا لم
يتجاوز عمره بضع ساعات، أشعر كأنني قد سقطت في بئر عميقة لا أستطيع الخروج منها،
كانت زوجتي هي كل شيء بالنسبة لي في تلك الحياة، و أنا كذلك كنت بالنسبة لها كل
شيء، كل ما أعرفه عنها أو تعرفه عني لم يتجاوز الاسم، ليس هذا لأننا نخفي شيئا عن
بعضنا البعض و لكن لأننا لا نعلم شيئا أصلا، نعم تلك هي الحقيقة فأنا و هي كنا في أحد
الملاجئ و كنا قد قررنا الزواج عندما نترك ذلك الملجأ، و لمَّ لا؟ إنني أحتاج إلى
من أدفن معها سري كي لا يسألني أحد يوما ما من والدك؟ أو أمك؟ أو جدك؟ إنني
أريد ألا أتذكر الماضي الذي لا أعلم منه شيئا غير أننى إنسان لقيط كما يقولون،
إننى لا أريد أن اُسأل...
أرجوك لا تسألني من أنا؟
فلست أنا السبب في هذا و لا أريد أن أعلم
من السبب؟
إن كنت ابنًا لفعل مشين
أو ابنًا قد توفي
والداه و زج به في أحد الملاجئ أو طفل قد تعارك والداه و قرر كل منهما الانفصال عن
الاخر و عدم تحمل مسؤليته؛ فتخلصوا من تلك العقبة ودفعوا به في أحد الملاجئ تحت
اسم
"احنا لاقيناه على باب جامع"
ياالله
قلت لك لا تسألني من أنا؟ إنني حينما أتذكر تلك الأحداث أريد أن أقتل نفسي
لأنتهي و ينتهي كل شيء، أشعر كأن عقلي يعمل الآن بسرعة ألفي كيلومتر في الساعة
عندما أتذكر تلك الأحداث التي ما أن تبدأ لا تنتهى، أعود بكم إلى زوجتي التي كانت
في أمس الحاجة لي لنفس الأسباب التي قد ذكرتها منذ قليل كنت أشعر كأنها أختى التي
أعرفها جيدا و تعرفني من نظرة عيني، حينما كنا في ذلك الملجأ، عندما قررنا الزواج
كان قرارا نابعا من العقل قبل القلب في كل شيء... الا شيئا واحدا قد سبق القلب فيه
العقل مع العلم أننى قد حذرتها كثيرا إلا أن عاطفة القلب أو كما يقولون عاطفة
الأمومة كانت قد تغلبت عليها و قررت أن تحمل مني و ألا تبلغني بذلك الأمر إلا في
الوقت الذي لا ينفع فيه الرجوع، لكم أن تتخيلوا مشهد المشاجرة التي دارت بيني و
بينها جراء تلك الفعلة، لقد نسيت أن اذكر لكم لمَّ كانت تلك المشاجرة؛ فمثلكم لا
يعلم مثل تلك الاشياء البسيطة، إنها إثبات وجود؛ لمن نترك هذا الطفل القادم؟ عارنا
سيلحق به و بمن تبعه إلى آخر العمر، كما أنني لا أستطيع أن أتحمل كم الاسئلة التي
سوف يسألها لي و هو طفل صغير لم يتجاوز الخمس سنوات
بابا هو مين والدك؟
بابا هو انا جدى مين؟
بابا هو يعني إيه لقيط؟
بابا...؟
بابا...؟
كل تلك الأسئلة تفتح مجالا كنت في غنى عنه.
ـ ما العمل الأن؟
هكذا قلت لها...
قامت برفع
وجهها الممتلئ بالدموع في وجهي و هي سائلة:
"يعني مش من حقي أبقى أم؟"
أجبتها:
"و لا من حقي أبقى أب؟"
"ليه؟"
هكذا سألت و هي تعلم الإجابة جيدا ـ كأنها
كانت تريد أن تسمعها مني و تخاطب بها ذلك العالم الظالم الذي لا يفرق بين الجاني و
المجني عليه ـ هدأت من روعها و أخذت أصنع بأصابعي سدودا لتوقف تلك الأنهار التي
تتساقط من عينها و رحت أضمها إلى صدري
قائلا:
"خلاص ياحببتي... الظاهر أنها مشيئة
الله"
أيام تجري و شهور تمر، و يأتى ذلك الضيف
الجديد، و مع اقتراب قدومه تتجدد المشاجرات بيني و بين زوجتي:
ـ ماذا نفعل عندما يسأل عن الماضى؟ هكذا أبدأ
ـ ملكش دعوة سبني و أنا هرد عليه
ـ هتقولي إيه؟
ـ أنت مالك سيبها عليَّ و على ربنا؟
عندها أصمت قليلا ثم أعود للسؤال:
ـ طب لو سأل عن والدي أو والدكِ؟
ـ ما أنا قولتلك سبني و أنا هتصرف.
ـ حاضر
و بعدها بساعات قليلة:
ـ طب لو قال على...؟
حينها تنفجر هي في وجهي كالقنبلة الموقوتة
قائلة:
ـ يعني أعملك أيه؟ أنا تعبت والله
و
تنفجر في موجة من البكاء لا تنتهي إلا بالنوم على صدري.
لم يتبق الآن إلا أيام قليلة و يشرف هذا
المولود، لا أخفيكم سرا أنني أتوق إلى تلك اللحظة التي أرى فيها طفلي الجديد، و
لكن يجتاجني شعوران مختلفان في آن واحد، أشعر بالفرح و الخوف في نفس الوقت.
أخذت أحصي الدقائق و الساعات حتى جاءت اللحظة
الموعودة و وضعت زوجتى طفلنا و ما هي إلا دقائق قليلة حتى فارقت الحياة لتتركني
وحيدا أنا و طفل لم يتجاوز عمره بضع ساعات...
ما العمل الآن؟
الم تكن هي من قالت أنها ستتكفل بكل شيء؟
كيف تتركني وحدي هكذا؟
حملت طفلي و خرجت هائما على وجهى لا أدري إلى
أين أتجه و لا أعلم إلى أين تأخذني قدماي؛ فأنا مشلول العقل، طفل يبكي بين يدي و
زوجتي قد فارقت الحياة، و أناس حولي لا يرغبون في وجودي أنا وطفلي المسكين هذا.
يا ويلتي لقد أضفت إلى مأساتي مأساة أخرى، و
بينما أنا كذلك استوقفتني قدماي أمام أبواب أحد المساجد.
هنا انتبهت لضحكات القدر إنها حكاية لا تنتهي
حقا، نظرت يمينا و يسارا حتى تحينت الفرصة لأضعه أمام المسجد لتبدأ قصة أخرى خلف
أبواب الملجأ أو لعلها تكون داخل أزقة الشوارع لا يهم لأن الحقيقة أن أحدا لن
يهتم.