(المركز الخامس)
رسائل إلى غودو
الكاتب/ احمد عواد الخزاعي (العراق)
صمت لسنين طويلة، تحاشى حتى التفكير بما كان
و بما سوف يكون، بعد أن سحقته عجلة الحياة بشقائها و بؤسها و عمله المضني بين ضجيج
المكائن الكبيرة، غير أنه بالرغم من ذلك، ظل يقرأ كل ليلة في صومعته على وقع خطوات
عكاز أبيه العجوز، الذي يبقى مستيقظاَ معه طوال الليل طالباَ منه النوم مبكراَ،
خوفاَ عليه من التعب و الإرهاق.
وقف أمام ماكينته الكبيرة التي ألفها و ارتبط
معها بعلاقة شراكة غريبة حتى أسماها (ماكينة الزمن)، لأنه يعد معها سنين عمره
الضائعة التي تجاوزت الأربعين، ضغط على زر التشغيل و دارت محركات ذلك الكائن
الخرافي العملاق، بدأت تلف السجائر و تحشوها في العلب الصغيرة، كأحلامه المتراكمة
في قرارة نفسه الثكلى، استحضر كلمات أبيه العجوز معه ليلة أمس، حين سأله عن جدوى
بقائه دون زوجة و قد تخطى كل هذا العمر، راقب عمل ماكينته دون أن يجد جواباَ لأبيه
إذا ما أعاد سؤاله عليه هذه الليلة، أحس بألم قدمه الذي هجره منذ سنين طويلة،
انحنى رافعاَ بنطاله تحسس جرحه القديم، ذلك الوشم الغافي على ساقه النحيلة، تركة
حروب خاضها تحت عناوين لا يزال يجهلها، انتابته رغبه كبيرة تجاوزت جدران صمته،
أراد أن يصرخ لوعة يضيع صداها بين ضجيج الماكينات التي تملأ المكان، عندها قرر أن
يكتب هذه الليلة.
أمسك بقلمه، طالع الأوراق الغافية أمامه،
التي تنتظر نزف جرحه الأول، جالت عيناه بين عناوين الكتب التي غصت بها غرفته الصغيرة، تناول أحدها،
مسح الغبار المتراكم عليه، أطال النظر فيه (صموئيل بيكيت)، أخذ يردد هذا الاسم و هو
يعيد الكتاب إلى حيث كان، عاد لأوراقه كتب في أعلى الصفحة الأولى، رسائل إلى غودو.
تحت هذا العنوان وسم حلمه الأول:
سيدي غودو، لقد رأيتها بالأمس كانت أجمل من
كل الزهور و أرق من أريج عطرها، قطة بيضاء تلوذ برداء قديس يحتضر، حاولت الاقتراب
منها، مددت يدي نحوها طالباَ منها أن تمنحني لحظة واحدة سرقتها مني الحروب و جبهات
القتال، لحظة حب دفنتها حروبي في خنادقها
و سواترها الترابية، غير أنها فضلت الهروب على أن تقع أسيرة بين يدي بدوي جلف،
قادم من صحرائه الميتة، يحمل في جرابه بقايا رفات لأحلام ماتت قبل أن ترى النور،
نشدتها أملاَ، و رأتني سفراَ للهزائم و غربة أبدية.
استرخى على كرسيه القديم طاوياَ رسالته
الأولى، و هو يستمع لرجاء أبيه بان ينام لأن الصباح أوشك على الطلوع، لبى رغبة
أبيه متحاشياَ النظر في وجهه، لملم أوراقه و هو يمسح بقايا دموع تناثرت على خديه.
ظل يكتب رسائله إلى غودو و يضعها في صندوق
أمه الخشبي الذي بقي فارغاَ منذ رحيلها عن هذه الحياة، حتى امتلأ بأحلامه.
طالع مع حشود الناس الرتل الفولاذي الذي يشق
عباب شوارع مدينته الفقيرة، سأل شخصاَ كان بجواره:
- هل
هذه هي (الأبرامز)؟
لم ينتظر الجواب، فقد أدهشه منظر الجنود
الذين يعتلون أبراجها، اخذ يردد مع نفسه: (لقد رحل، نعم لقد رحل).
عاد إلى خزانة أمه؛ قلب رسائله، حاول
إقفالها، لكن شيء ما منعه من ذلك.
كانت السنين تمر مسرعة بلا طعم أو جدوى، لم
يتغير شيء في حياته غير أن ماكينته توقفت عن العمل و أكلها الصدأ، و التهم الشيب
شعره، رحل أبيه بهدوء عن هذه الحياة ككل الرجال الطيبين، و بقي وحيداَ لم يفارق
صومعته، ذات ليلة ظل يقرأ حتى الفجر و هو يدخن سجائره الرخيصة، اقترب من خزانة أمه
المحشوة بأمنياته التي بقيت بانتظار غودو، وضع ورقته عليها و كتب في أعلاها
(الرسالة الأخيرة لغودو):
سيدي هل تعلم أن أبي قد مات، و صوت عكازه ما زال
يضج مضجعي، نعم لقد رحل قبل أن أهديه إجابتي، رحل و ها أنا وحدي مع كتبي و ماكينتي
الصدئة، كناقوس كنيسة خاوية هجرها رهبانها، أنا لوحدي ما زلت أحلم، و ما زلت في انتظارك.