مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

حيرة بقلم: جعفر جبارين (فلسطين)

حيرة
بقلم: جعفر جبارين (فلسطين)
ما أغرب وجه هذه المرأة و ما أغرب تعابيره.
و ما أغرب طباعها.
لقد شغلتني و أثارت انتباهي منذ كنت صغيرًا ألعب مع الصبية أبناء جلدتي.
كنت أراها كل يومٍ و بنفس اللباس الأسود... كل يوم.
أراها في طريقها نحو الدكان لشراء حاجيات منزلها.
لم تكن تتكلم كالنساء، و لم تكن تكلم النساء، لم تكن تضحك، كانت تعابير وجهها غامضةً حيرتني حتى عندما بلغت سن الشباب، كنت أراها قادمةً من بعيد و بنفس الساعة كل يوم لسنين طوال وراءها يبكي ولدها الصغير يمسك بأطراف ثوبها محاولًا جرّها الى الوراء أو أعاقتها، كانت أقوى منه، تجره هي.
لم أكن أستمتع باللعب مع زملائي بقدر استمتاعي برؤية هذا المشهد المثير الغريب و الذي ما زال عالقًا في ذاكرتي.
كانت فائقة الجمال، شابة رعناء، صغيرة السن، حزينة النظرة، لم أكن أعرفها من قبل و فجأة ظهرت في حياتي و حياة حارتنا. لقد كنت في الثانية عشر من عمري، و قد أشغلني حب الاستطلاع و أصبحت هي تشغل فكري كل يوم، من هذه السيدة الغريبة الجميلة؟
لقد غزت حارتي على حين غرة تلبس السواد، أراها كل يوم، أنظر اليها و لا تنظر اليّ.
ما هذا اللغز المبهم؟ سألت جدتي و خلصتني باجابتها من هذا العذاب.
هذه السيدة ابنة حارتنا تزوجت قبل ثماني سنوات و رحلت عنا منذ ذلك الحين لتعيش في بيت زوجها، و كان زوجها يعمل مزارعًا مع ابن عم له، إلا أن شجارًا عنيفًا و شديدًا ينشب بينهما حول المنتوج و حاصله و قسمته فيتضاربا بالايادي و العصي فيردي زوجها ابن عمه قتيلا
تحكم المحكمة على زوجها بالسجن لمدة خمس و عشرون سنة، وع لى إثر هذا الحكم تترك بيت زوجها عائدة إلى بيت أهلها لتعيش بينهم.
خمسة و عشرون عامًا سوف تنتظر هذه المرأة زوجها؟!
و في هذه الفترة كنت أكبر سنًا و هي تكبر سنًا و تقل مدة عقوبة زوجها.
أنهيت دراستي الثانوية و مرّ على سجن زوجها ست سنوات، و كانت هذه المرأة لا تزال على عاداتها.
كبر ابنها و لم يعد يلاحقها بعد، بل أصبح يرافقها. بدأت دراستي الجامعية و انقطعت مدة خمس سنين عن هذا الروتين اليومي، عدا المرات التي كنت أعود فيها إلى بيتي و كنت أراها... فينتابني شعور غريب من الحزن و الحيرة و حب الاستطلاع، بماذا تفكر؟ هذه المرأة التي انقضى على حالها أكثر من عشر سنين، أهي مشتاقة لزوجها؟ أهي غاضبة؟ هل تضحك مع ابنها؟ بماذا تحدثه؟ و كيف تقضي وقتها؟
بقي على موعد خروج زوجها من السجن خمس سنوات، و ما زلت أراها و أستغرب، لقد كبرت في السن و تقدمت و ذبلت زهرة شبابها و كادت تنطفئ، و في هذه الأثناء يدرس ابنها في الجامعة و يتخرج من كلية الهندسة مهندسًا مهذبًا خجولًا سكوتًا يحمل ملامح أمه و طياتها و تعابيرها، مشيته كمشيتها، صمته كصمتها، يحب أمه و يعبدها، هو الاخر ينتظر خروج والده الذي لم يعرفه إلا من وراء القضبان.
و مرت السنين و بقي أسبوعان لخروج زوجها من السجن، وأصبح شغل الناس الشاغل، لا يتحدثون إلا عنه.
أسبوع أخير و يخرج زوجها، أما أنا فقد اهتممت أكثر بتلك المرأة و بشكل خاص كي أرى ملامحها و تعابيرها، هل تغيرت؟
لم أرها في ذلك الأسبوع بتاتًا، أكلني الشك و الفضول، لقد مرضت قبل خروجه بأيام و لازمت فراشها، مرضت مرضًا لم يجد متنفسًا له طوال هذه المدة إلا هذا الأسبوع.
الناس في الخارج يجهزون ويعدون العدة لاستقباله في الوقت الذي لازمت فيه فراشها، اشتد بها المرض فطلبت لقاء ولدها على حدة.
و بعد دقائق يخرج و الدموع تنساب من عينيه. لقد فارقت الحياة.
فارق أمه اليوم، و سيلاقي والده غدًا.
جاء الغد بصبحه كالعادة، ترى الناس حيارى، لا يدرون ما العمل، من المفروض أن يصل إلى البيت في الرابعة مساءً فالطريق طويلة و إجراءات السجن أطول.
قاربت الساعة الثالثة، يسود الحارة هدوء مزعج، هدوء يخفي وراءه غموضًا كثيرًا، غصة و فرحة و حيرة و حزن.
اصطف الرجال صفًا مستقيمًا لاستقباله، جاء مستبشرًا مهللًا ضاحكًا فرحًا يصافح و يعانق و يقبل الناس، لقد كبر بربع قرن و شاخت ملامحه إلا أنه كان فرحًا، و ها هو المهندس يقترب منه وحيدًا، فيصيح الوالد "ولدي، ولدي حبيبي"، يعانقه و دموع الفرحة تنهمر من عينيه و دموع الحزن تنهمر من عيني المهندس:
"أين أمك؟" سأل الوالد.
"لقد ماتت"
"ماذا؟"
"
لقد ماتت يا أبي"
"متى؟ و كيف؟"
"بالأمس"
"
بالأمس؟"
"
نعم يا أبي"
كان يردد كلمة "أبي" و يزداد حزنًا.
"كيف؟" سأل الوالد.
"لست أدري يا أبي"
"أكانت مريضة؟"
"لست أدري يا أبي"
"أين هي الآن؟" يصيح بأعلى صوته "هل كانت مريضة؟ هل ماتت فجأة؟"
"لقد ماتت على مراحل يا أبي، بدأت تموت منذ اليوم الأول لدخولك السجن يا أبي"
لم يفهم الوالد ما يقوله ابنه، في هذه الاثناء، و الشمس على وشك المغيب يسمع صوت أخته من بعيد قادمة نحوه صارخة " أخيرا خرجت من السجن يا أخي، أخيرا، لكنك خرجت متأخرًا قليلًا، فقد ماتت..."
لم يستطع تحمل هذا الوضع، و لم يتمالك نفسه، فيدخل البيت مسرعًا و تتضارب في صدره المشاعر و في رأسه الأفكار...
و بعد مرور شهر من خروجه سمعت من أحد الجيران أن هذا الرجل قد تزوج فتاة في الخامسة و العشرين،تصغر ابنه المهندس سنًا.
تمرّ الأيام و الشهور و يعود هذا الرجل الغريب مألوفًا على أهل بلدته.

أما أنا فكلما كنت أصعد إلى سطح منزلي كنت أرى الشارع و أراها و ينتابني حزن و شفقة على تلك المخلوقة الجميلة التي عاشت و ماتت و قد أخذت سرها معها إلى قبرها. ما زلت أراها تسير و هي صغيرة السن و تكبر أمام ناظري، و كلما تقدمت نحو الدكان كلما تقدمت في السن و السؤال ما زال يصارع صدري ألمًا... لماذا ماتت؟.