المشاركة رقم 19
هذا الرجل
بقلم/ فتحي إسماعيل ـ مصر
هذا الرجل ذو الابتسامة التي نحتتها شمس صباح لم تغب عن وجهه يوما، يستقبلها دائما و في نفس التوقيت عند المنعطف، يتأبط صحف اليوم، مطوية بعناية، و ذراعه الأخرى غالبًا مرفوعة يحيي بها كل من يقابله، مانحا كل عابر ابتسامة، و يسلم على كل جالس بإشارة من كفه.
في الصباح و على كرسي لم يتغير موضعه منذ عهود بعيدة، حتى بعد تجديد المقهى؛ ينهي فنجان قهوته المعتاد "على الريحة"... ينتهي من كل الجرائد قراءة ثم يعود إليها؛ ليحل كلماتها المتقاطعة، و بعدها يترك الجرائد على المنضدة و تحتها ثمن المشروب، يحيي الجالسين بابتسامة و انحناءة ثم ينصرف.
و في المساء يملأ فراغ مسكنه بروائح ذكرى، يمنح جارته الحسناء نظرة أب، و حارس البناية يدًا مضمومة.
كان صديقا للقمر، كما أنه صديق للشمس، يستقبلهما بنفس القلب الذي يشبه قلب طائر، و بنفس الوجه الباش، لم يضع يومًا شريطًا أسودًا على أي من تلك البراويز المعلقة على حوائط منزله، بل يحييها صباحًا و مساء بنفس ابتسامته التي يحيي بها المارة و البواب و عامل المقهى،
لم يتعصب لفريق كرة، رغم أنه يهوى مشاهدة المباريات في المقهى و على ذات كرسيه، يستقبل كل فوز بابتسامة، و كل إخفاق بمثيلتها.
لم يثر في وجه أحد، و لم يمل من الانتظار، في طابور العيش أو طابور المعاش.
لم يعرف أحد عنه أنه اتبع حزبًا، أو ناصَر رئيسًا، أو هاجم حكومة.
هذا الرجل، لم يصب بداء السكري، و لم يتهتك كبده، و لا يزال بيته عامرًا بأنفاسه، لم يدفن، و لم يعلق وجهه في برواز على جدار.
و لكنه منذ أن ضغطت جارته الحسناء على أصابع كفه، و هي تكز بأسنانها على جانب شفتها، و تغمز بعينها، و إصرار حارس البناية على أن يرى ما تحويه اليد المضمومة؛ منذ ذلك اليوم نسي أن يُحيي الصور المعلّقة على حوائط شقته، و تأخر عن استقبال الشمس... و مات.