مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

ورقة بقلم/ أحمد جمال الدين رمضان حميدة (مصر)

ــــــــــــــــــــــــ
المركز الرابع
ــــــــــــــــــــــــ
ورقة
بقلم/ أحمد جمال الدين رمضان حميدة (مصر)
اجتاز الطفل الشارع رغم السيارات العابرة بسرعة، حمل بضاعته الرخيصة على ظهره و بدأ يطرق نوافذ السيارات منادياً عليها، رمقه بعض أصحاب السيارات بلا مبالاة، و البعض باستنكار أحياناً خاصة عندما يواصل الطرق على النوافذ بإلحاح، تلقى كلمات السباب من بعض السائقين و قابلها بابتسامة بلهاء، انتقل إلى شارع آخر، لساعات ظل يتنقل و يدور بين السيارات؛ تملكه التعب قليلاً فاتجه إلى الرصيف، جلس عليه يستريح لبرهة و يستعيد أنفاسه اللاهثة، رمى بضاعته بجانبه و أحصى نقوده القليلة، رفع عينيه للشمس التي تحرقه بحرارتها، تلفت حوله بحثاً عن شيء يستظل به؛ لم يجد سوى صفحة شبه ممزقة، صفحة من جريدة قديمة حملها الهواء حتى استقرت على بعد خطوات منه، التقطها و طواها على رأسه، نظر للشارع منتظراً إغلاق الإشارة الضوئية حتى ينطلق مرة أخرى... مسح بضع قطرات من العرق بطرف قميصه المتسخ، هبت نسمة من الريح أطارت الصفحة من قبضة يده الضعيفة؛ التقطها مرة أخرى قبل أن تطير بعيداً، و قبل أن يضعها على رأسه مرة أخرى لمح صورة فيها؛ بسط الصفحة أمامه قليلاً، صورة عائلة صغيرة: أب و أم يحتضنان أبناءهما بسعادة؛ لم يدرك أنه إعلان، لم يكن يجيد القراءة و الكتابة على أي حال، كل ما لفت نظره تلك الابتسامة التي تضيء وجه كل واحد منهم و قد لفت الأم بيدها على الأبناء من جهة، و الأب من جهة أخرى... سرح قليلاً مع الصورة، ارتسمت على وجهه بلا وعى ابتسامة صغيرة قتلتها أشعة الشمس الحارقة، انتبه فأحكم وضع الصفحة فوق رأسه مرة أخرى، شرد بعيداً و تساءل في حيرة: لماذا يبتسم الأبناء في الصورة بهذا الشكل؟، ربما سببه الإحساس بالأمان، ذلك الإحساس الذي لم يعرفه منذ هرب من الملجأ لقسوة المعاملة هناك، و قبلها لم يعرف معنى العائلة، التقطوه صغيراً من أحد الحقول المهجورة و لم يستدلوا على أهله، هكذا أخبروه في الملجأ؛ عندما يسمع أحداً يتكلم عن العائلة يشعر بشيء غامض، ربما لأنه لم يعرف يوماً معنى تلك الكلمة أو يدرك قيمتها، حرص كثيراً على أن يعرف معناها لكنه فشل... منذ هرب من الملجأ لعب عدة مرات في الشارع مع أطفال في مثل عمره، بعضهم يمنعه من اللعب معهم بتأفف، و البعض يقبلوه بلا اهتمام، عندما يرى كل واحد منهم يتكلم عن عائلته يلتقط أحاديثهم بتركيز و اهتمام، لم يستطع أن يكون صورة واضحة رغم ذلك، و لكنه يشعر أنهم يتكلمون عنها بلهجة تحمل كثيراً من الشعور بالأمان و الدفء، الشعور الذى افتقده دوماً.
انتبه على صوت فرملة سيارة، أغلقت الإشارة الضوئية الآن؛ التقط بضاعته التي وضعها على الرصيف بجواره، نحى الورقة جانباً، انطلق بسرعة يسابق الزمن ليعرض بضاعته لأصحاب السيارات المنتظرة، التقطت عيناه إحدى السيارات على الجانب البعيد تبدو فارهه، تقودها امرأة بجوارها طفل ربما تعطف عليه و تعطيه بعض النقود؛ انطلق يقصدها، لم ينتبه أن سيارة أخرى تأتي مسرعة رغم توقف الإشارة؛ لم يشعر سوى بلفحة قوية من الهواء ترتطم بوجهه، فرمل صاحب السيارة فوراً بمجرد أن عبر الطفل أمامه، و تجمد هو في مكانه و هو يرى الجسم المعدنى المنطلق بسرعة نحوه، قبل أن يغمض عينيه حتى لا يرى يد الموت الممتدة نحوه، صدمته السيارة بقسوة...
توقفت الحركة في الشارع، نزل صاحب السيارة فوراً و هو ينهال بالشتائم على الطفل الذي عبر أمامه فجأه، تجمع المارة حول كتلة اللحم و الدم الجديدة الملقاة على الطريق، الطفل ممدد على ظهره تنساب منه بركة دماء تزداد تدريجياً، بيده ما زال يقبض على كيس ممزق يحمل فيه بضاعته التي تناثرت محتوياتها بعيداً؛ أسرع شخص ما يخترق الجمع بصعوبة صائحاً بالناس إنه طبيب، ما زالت قدما الطفل تنتفضان بشكل طفيف بينما سكن باقي جسده تقريباً، لحظات كشف عليه الطبيب كانت انتفاضة قدميه قد هدأت تماماً و سكن جسده بينما عيناه لا زالتا مفتوحتان تتطلعان بشرود إلى نقطة ما بعيدة غير مرئية، هز الطبيب رأسه بأسف، دارى البعض أعينهم، بينما تناثرت همهمات أسف بين المارين المتوقفين، ألقى أحد المارة نظرة على الجثة الحديثة مفتوحة العينين؛ بحث في المكان عن شيء يغطيها به، اختفى لثوانٍ ثم عاد، تقدم مخترقاً الحشود، غطى وجهه بورقة من صحيفة لم يجد غيرها بعد أن سبل عينيه برفق؛ امتصت الورقة دماء الطفل فوراً، ورقة من صحيفة قديمة لم يلاحظ أن على ظهرها ترتسم بوضوح، صورة عائلة صغيرة تبتسم بدفء.