مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

أغلى أماني الحياة بقلم/ زهرة صالح يبرم (الجزائر)

ــــــــــــــــــــــــ
المركز التاسع
ــــــــــــــــــــــــ
أغلى أماني الحياة
        بقلم/ زهرة صالح يبرم (الجزائر)
        شعرت بكثير من الجذل وأنا أسير جنب سيدي في طريقه إلى بيت جاره وصديقه. نشوان أعدو في الهواء الطلق وغرتي الكثيفة تهتز وتسقط على جبيني. وكلما حاولت الانطلاق بعيدا يجذب السلسلة المعدنية المربوطة بعنقي، فأرتدّ إليه مقهورا وكأن نهاية العالم بمنتهى طول السلسلة.
أُعجبت بظلي يتبعني، وبالشارع المبلل بالمطر يلمع تحت الشمس. خاتلتُ سيدي غفلة ونزلت من على الرصيف حيث التراب المبتل يبعث روائح شهية. مشيت وكأنني أسير على بساط من حرير والوحل يتطاير تحت قوائمي فينثر وبري بمنتهى العذوبة كمداعبة دافئة.
غير بعيد، شاهدت كلبا يسير منفردا، شارد الفكر، واثق النفس، معتدل المشي لا يركض مندفعا ولا يتوقف مترددا. لا يتملك رقبته من يراقبه فيحاسبه أو يعاقبه ويحرمه. تأسفت لقيدي وغبطته على شرف الحرية، ولم أشك في أنه سعيد.
كم رغبت في فك السلسلة يدفعني إغواء إلى خوض تجربة الحرية، أركض بعيدا وأنبح ملء فمي، أتمرغ في المدر، وآكل وأشرب من حيث تأكل الأحرار من الكلاب وتشرب، وأبيت حيث أشاء.
مللت دفء البيت، وسئمت سعادة قضت عليها الرتابة، فما عاد مخدعي الوثير يغريني، ولا اللحم الطازج يشهيني.
كم سعدت حين وجدت في منزل جار سيدي كلبا مثلي ممددا في الرواق على سجاد بمقاسه. لا يبدو عليه النعيم ولا قيد يربطه، وخمنت أنه مثلي يعاني الضجر في عزلته.
سارع جار سيدي لتخليص يد ضيفه من سلسلتي، ربطها إلى عمود المدفأة و أشار إلي بأن ألزم الهدوء.
هكذا هم سادتنا، متشابهون في تعاملهم مع الكلاب. يمنعوننا من التحرك بحرية داخل البيوت، ويحرموننا من العالم الخارجي. يُلزموننا بأوامرهم ويخضعوننا لقوانينهم، فنطيعهم صاغرين .
الأهم عندي وجود رفيق من فصيلتي يؤنسني، كلبا هرما أنا في سن ابن له أو حفيد. مددت جسدي غير بعيد عنه، ولما هم بمحادثتي بصوت خفيض دنوت منه أكثر.
سألني عن حالي وعيش البيوت؟ قلت متبرما: "وهل أعرف عيشا آخر غير عيش البيوت؟"
ابتسم الكلب العجوز فانفرجت شفتاه عن أنياب سال من بينها لعاب وفير، فتشجعت وأردفت: "أتمنى عيش الشوارع يا كلب جار سيدي!".
فضحك وقال: "وماذا تعرف عن عيش الشوارع لتتمناه؟"
قلت: "لقد شاهدت من بين قضبان الشرفة على الرصيف المقابل كلبان شامخان، يتمرغان، يتمازحان تحت أشعة الشمس مطلقين عواء جذلا، فأحببت أن أعيش حياتهما."
سكت العجوز برهة، وتكلم بأكثر وقار وحكمة: "لا تتبرم من عيشتك، فالشارع غير رحيم".
شرعت عيني وسألت: "أجربت الحياة خارج الحيطان يا كلب جار سيدي؟"
هزّ رأسه بالإيجاب، وسرح بفكره كأنما يسترجع أحداثا بعيدة، يقتنصها وهي تنفلتُ من عقال الذكريات: "قاسية جدا ولن أرضاها لكلب".
ولما رأى اهتمامي استرسل:
"كان عمري لا يتعدى سنة، وكنت من الكلاب السذج. والشباب مغرور،على قناعة أنه يتصرف بحكمة متناهية بينما يرتكب كل ضروب الجنون.
تضخم لدي الشعور بعدم حب سيدي لي حتى تشوهت رؤية الأشياء من حولي. فلم يعد مخدعي يعجبني، ولا عدت أقنع بطعامي. كنت دوما سئما من وضعي، ضجرا من المداعبات، متقززا من طراوة الفراش، مشمئزا من سمنتي.
لم أكن أُقدّر أن عيشي يضاهي النعيم. ولم يكن نعيمي يساوي بنظري لحظة من لحظات متع الكلاب التي أشاهدها على الرصيف وأنا أمد عنقي إلى الشارع. أنبهرُ بها وهي تمارس حياتها بلا قيود، فتتملكني رغبة جامحة في أن أتمرد، أن أنسل خفية وأهرب إلى حيث الانعتاق والانطلاق. وآخذ في النباح يائسا أمام الأبواب المغلقة اللعينة التي تعوق تحقيق قناعاتي المحسومة.
كنت أحتج على غلق كل الأبواب، بما فيها أبواب الخزائن والثلاجات حيث الأكل الطيب واللحوم الطازجة. فما كان مأكلي غير خبز يابس ونخالة وفضلات موائد.
وحدثَ يوما أن نسي سيدي الباب مواربا فهرعت إلى الشارع. و لن أخفي عنك ما تملكني من خوف وذعر بالتوازي مع فرحتي وانبهاري وأنا أتوغل في مناطق لم أطأها قط.
وقفت فجأة أتأمل مشهد كلاب ضامرة تتمرغ في الوحل وتشرب من مياه الجداول، فقلدتها. تمرغت على أرض مبتلة فتدحرجت، لسمنتي، ككرة ثلج وأصَبت من المتعة ما لا يوصف. وشربت من ماء الغدير فوجدته كالعسل المصفى.
جفلت حين بدأت الكلاب تتقدم نحوي، تنبح وتحرك أذنابها، تستفزني وتنوي العراك. رهبت وكنت سأنهار وهي تحاصرني وتتناوب في الهجوم علي وأنا فاقد الدربة على التصدي لها. لكن الكلاب ضحكت من غبائي. وما كانت تلك إلا طقوس للمزاح والترحاب بالغرباء.
تصرفات كلاب الشوارع خليط عجيب من الجنون والوداعة، ولقد اكتشفت معها  السعادة الحقيقية والحياة المثالية.
فجأة، ظهرت كلبة شابة فاتنة، حركت في نفسي شيئا لم أعرفه من قبل سوى في أحلامي. اندفعت الكلاب لملاقاتها واندفعت معها. بل سبقتها. تقدمتُ لمغازلتها حين انقض على عنقي أحد الرفاق فجأة وعضني عضة مؤلمة عويت معها ألما ويأسا.
"لا عليك، قال لي كلب هرم حكيم، هيئ نفسك للأسوأ".
واشتد علي الجوع فسألته: " ماذا تأكل الكلاب في الشوارع"؟
"أي شيء تعثر عليه"، أجابني الكلب الهرم.
في الشوارع تتدبر الكلاب أمر حياتها، تتحمل مسؤولية قوتها ومبيتها. تجوع، تحتار، تشقى. تقايض عظما لا يغني من جوع بضربة عصى، وتتناحر من أجل لقية. تهيم على وجهها نحيفة، مشردة، متمردة، منفلتة لا تعرف نظاما للحياة. تواجه كل لحظة طلقة نار أو حذفا بحجر. تتيه في أحلامها وتحلق إلى علو لا يؤهلها للتفكير في الوضع العام للكلاب.
معدتي تمتعض، وأنا أفتش في الأوحال والمزابل يائسا. رباه! كم كانت فضلة مائدة سيدي بعيدة!
هبط الظلام، وأناخ على الكون ليل بارد موحل. نزل المطر رقيقا يتغلغل إلى العظام، والريح تعصف موحشة. أسفت على سلة القش المبطنة بجلد خروف والسقف الذي كان يؤويني.
الخوف والجوع والبرد حلفاء الليل ضدنا. فكنا ننسل خائفين جنب البيوت نتضور جوعا بانتظار موعد إخراج القمامة إلى مكب النفايات. وبعد لأي رُحنا ننقب في الأكداس.
لم أكن موهوبا في ترصد الطعام فلم أعثر على ما يسكت جوعي، لكن رفقائي الكلاب لا تيأس في البحث عن مزيد من الأكل، وقد جعلوني أركض حتى الصباح متفقدا كل مكب قمامة على مهل حتى ما عادت قوائمي تحملني.
لقد عشت ليلة ليلاء فلعنت الشارع والحرية المزعومة، وتاقت نفسي للعيش عبدا. مع الصباح، وقفت لأودع أصدقائي الكلاب، إذ لم أكن مستعدا لأموت على كُوم قمامة.
حال دخولي المنزل، نزع سيدي حزامه الجلدي وألهب ظهري بجلدات لم تكن شيئا أمام لذّة ما سيقدم لي من طعام وطراوة ودفء ما سأنعم به من فراش".
تمدد كلب جار سيدي أما المدفأة وختم حديثه:
"الحرية الحقيقية والحياة المريحة، يا صغيري، هي أن تعيش مستقرا في مكان فيه دفء وطعام دائم وإن قل، حتى وإن كنت مقيدا وتعاقب على سوء التصرف. وأتمنى أن يصل صوتي لجميع الكلاب".

سرت عائدا إلى البيت يجرني سيدي خلفه، وفكرة عيش تجربة الحرية تدور برأسي كأمنية غالية، وستظل تراودني إلى أن أخوضها بنفسي.