المركز السابع
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المُحاكمة
بقلم/
عادل محمد فودة (مصر)
رباه إنها كهيئة
محاكم العصور الوسطى, تُرى من هؤلاء؟ وماذا فعلتُ لهم لقاء كل هذا الحنق والغضب؟
نالتني فزعة شديدة ذكَّرتني في صُبَّة ما ذكرتُ من آلات التعذيب المقصلة التي يزن
نصلُها قرابَة الأربعين كيلو جرامًا, وتخيلتُها حين يُحرِّروا عقالها فتهوي لتحزَّ
الرقاب فتشخبُ الأوداج الدماء كعيونٍ مُتفجِّرة, ولكن ظلَّ الخازوق أشدُّهم أذى وأنكاهم
على نفسي, فيا لها من ميتة بطيئة, بشعة, مؤلمة, تبعثُ في جملة مساوئها على الخجل,
يا ويْلي, ستبقى المعرَّة في أهلي إلى يوم يُبعثون, ثم تذكرت أنها لم تعد تُستخدم في
عصرنا هذا, فلهجت بالشكر لله, وعرفت الذين ابتدعوا البارود والحقنة المُميتة
بفضلهم على البشرية, ولكن لمَ كلُّ هذا؟ تحرَّيْتُ إن كان هناك إثمٌ قارفته أو
ذنبٌ جنيْتًه, بيد أنِّي لم أجد في قبيل حماقاتي ما يجعلني حريًا بما يترصَّدُني
خلف أستار الغيْب من عذاب, ولم أعثر في شخصٍ بلغ به حنقه عليّ أن يتمنَّى ليَ
شرًّا ولو كسانحٍ من خيال, إذا حاشيْنا زوجتي حين أصررتُ بكلِّ غباءٍ وصَلَف على
مشاهدة مباراة الكلاسيكو الأسباني بين برشلونة وريال مدريد الأخيرة, فكان أن
فاتتها الحلقة السبعون من مسلسل حريم السلطان, وصارت تبدأ بها حين تشرع في حصر
مساوئي والأيام السود الكثار التي لم تذق فيها معيَ إلَّا عذابًا وكدرًا, ولكن لا
أعتقد أن يبلغ بها شنآنها لي أن يعطف بها عقلها إلى الخازوق, لماذا كلُّ هذا؟ ومن
هؤلاء؟ وفجأةً ساد صمتٌ ثقيل الوطأة وكأنَّ على رؤوسهم حطَّ رِسلٌ من الحمام, ثم
لحقني القاضي بنظرةٍ مُطوَّلة مشوبة بتحدٍّ وتشفّ, قبل أن يسألَني بحزمٍ وبنبرةٍ
جافة رافعًا ذاك الكتاب نحوي:
- أأنت من ألَّف هذه الرواية؟
زرقتُ إليها للحظاتٍ
ثم أجبته أن نعم, فحطَّها عن يده وتحوَّل إليهم قائلاً بصرامة:
- ها هو اعترف, فليواجهه كلٌّ بما له عليه من ظِنَّة حتى نقضيَ في
أمره بما تقتضيه آثامه.
ثم نادى امرأة تجلس
في زمرة المَسان بمنتصف الصف الأول يُقال لها أم سَنَد, لبثتْ تتفحَّصني بغيظٍ
رأيته يثجُّ ثجًّا من عينيْها قبل أن تنفجر قائلة:
- أوَ تدري ماذا فعلتَ بنا؟ قتلتَ ابني وأحرقتَ عليه فؤادي, سيَّرت
عقارب البغضاء بيننا, قتلتَ منَّا ما قتلت, وشرَّدت بنا ما وسعك شرُّك, تلك هي
نزواتك ونزعاتك التي لا تخلو بحالٍ من شرٍّ وضغينة, قل ماذا أفدتَ وماذا
جنيْنا؟
وبغتةً ضرب رجعُ
الأسماء أذنيَّ, فتحي بك, أُمّ سَنَد, كاد صدري لينشقَّ فزعًا و نئتُ حِملاً
بهواجسي, وكربتُ أنوخ لولا يداي الموثوقتان إلى الحائط, رباه, نعم إنهم هم, وهنالك
لم أستطع أن أُغالب رغبةً احتضأت بداخلي في رؤيتها, فما انفك لحظي حائرًا بين الوجوه
يتفحَّصُها, حتى ثبت إليها على رغمي, نعم هي كما تخيلتها تمامًا, ذلك الجمال الهادئ
والقسمات الرائعة التي تشفُّ عن حكمة ورزانة, حتى نظراتها إليّ لم تكن غضبى كما
كانت نظراتهم جميعًا, تُرى هل مسَّت شيئًا في قلبي؟ نعم أشعر به منذ أن بدأتُ أكتب
عنها, وكأنِّي أصف شخصًا أعرفه جيدًا, يهفو إليه فؤادي فيما يهفو الحبيب إلى
حبيبه, ليتها تُرافقُني إلى عالمي, ثم لطم مسمعيَّ بغير ما رحمة صوت فتحي الرشيدي
يتلو حيثيات حكمه:
- كنا نعيش في عالمنا في سلامٍ وأمان حتى أعملتَ فينا قريحتك,
فاستعبدتنا وجعلتنا ننفِّذُ نزواتك وخطراتك, حتى أنا لم ترحمني وجعلتني بين الناس
حيوانًا لا همَّ له إلَّا رغباته وغرائزه.
يا ويلتي, من سيقضي
في أمري له من أسباب الضغينة تجاهي ما
تنضبُ له غدران الرحمة, وتستحيلُ بها أهدام الرثاء مُزقًا طائرة.
- لذا فقد قضينا عليه بالقتل بالمقصلة عند مشقأ الفجر.
رعدت القاعة
بالهتاف والإشادة بالعدل الذي لا تترجَّح له كفَّة, في حال استقبلتُ أنا الحكم
بنفسٍ فاترة, وحمدتُ الله, فإن كانوا يُحيطون بالمقصلة, فلم يكن الخازوق عنهم إذًا
ببعيد, وأشفقتُ أن تشهد شَهْد موتي بتلك الطريقة المُهينة, وفجأة شغرت القاعة وطبق
الصمت الآفاق, ولبرهةٍ لم أدر لها مدى أخذت بناصيتي غفوةٌ نَزِقة, ثم استفقتُ على
صوت شَهْد وهي تفكُّ وثاقي بلهفةٍ وعلى عَجَل بينما تصدح كتغريدة عصفور:
- اذهب الآن, اهرب.
- لماذا؟ لا تخافي, فهذا عالمٌ خيالي, ولا يُمكن أن أموتَ فيه.
فأجابت بما جعلني
أركضُ وثبًا كغزالٍ يهرب من لبؤة سعرها الجوع:
- نعم, عالمنا خياليّ, لكنْ الموتُ هو الحقيقةُ الوحيدة فيه, فمن مات
لا يعود.
ولكن تفتَّق الظلام
عنهم فجأةً فعتلوني إلى ساحةٍ بدا ليَ نصل المقصلة بارقًا في منتصفها, وقد بدَّدت
المشاعل بأيديهم بعضًا من فحمةِ الليل البهيم, فداخلني الرعبُ وأنشأتُ أصرخ:
- أنتم من وحي خيالي, وأردتُ فقط بكم أن أُقدم العبرة والعظة لا أكثر,
فقد أدَّيتم هدفًا نبيلاً, أنتم قومٌ طيِّبون, وما قصدتُ بما فعلتُ إلَّا خيرًا.
ولكنَّ ملقي لم ينل
من قلوبهم في شيء, ولمحتُ شَهد تزلفُ إليَّ الوئيدًا, ثم جثت فدسَّت في جيبي ورقة
صغيرة مطويَّة خضراء اللون وقالت:
- ابحث عنِّي في عالمك, ستجدنَي ما أخلصتَ البحث.
ثم تراجعت
الهويْنَى وأنا أُتبعها نظرًا مُترعًا بحُبٍّ وإعجاب حتى ذابت في الحفل, و مرَّت
ثوانٍ ثقال قبل أن يأمر أحدهم بتحرير النصل, فصرختُ ملء شدقيَّ ما نهضتني حنجرتي,
وإذا بيَ أجدُ نفسي في غرفتي وقد جمد ذائبي وذاب جامدي من فرط ما نالني من ذُعرٍ
وفَرَق, ثم أدركتُ بعضَ ما عزبَ عني من الرشد والأناة فعدتُ إلى هجعتي كرَّةً
أخرى, وعندما تجافى جنبي سمعتُ خرخشة ورقة في جيبي, رباه, إنها هي تلك الورقة
الخضراء وبذات طيَّتها, مكتوبٌ بها بخطٍّ بدا لي غريبًا كلمة "أحبُّك"
أذهلني الخوف لبرهة من الزمان, ألم يكن كابوسًا؟! ثم استعدتُ رجعَ كلماتها وهي
تؤكدُّ أنَّها موجودة في عالمي, وإذا بجرس الهاتف يُخرجني من ذهولي واستغراقي,
كانت زوجتي تستعجلني, إذ كان عليَّ أن أغدو بها ثم أُعيدُها رواحًا عند انتهاء
دوامها كلَّ يومٍ عقابًا لِمَا أنعم به من فراغ, باعتبار أنَّني كاتب وهي لا ترى
الكتابة مهنة تجعل من صاحبها ذا عمل, ولكني لبثت مشدوهًا عندما رأيتها أمام بوابة
المَشفَى بصُحبة فتاةٍ وردَ عليَّ من أمرها ما أحمى دمائي واستنهض حواسي, ترجّلتُ
مُسرعًا من السيارة ودلفتُ إليْها فهشَّت لمرآي وقالت:
- كيف حالك يا أستاذ؟
أصابتني لجمة عقلت
لساني عن الردّ, فأدركتني زوجتي:
- ألا تذكرها؟! إنها نيفين, طبيبة الطوارئ الجديدة, التقيْتما من قبل.
عقفتُ على عقبيَّ
وأنا أفركُ كفيَّ عجبًا, كيف نسيتُها؟ كيف أنَّني لم أذكَّرها؟ هل صوَّرها لي عقلي
بصفاتها التي أوردتها في الرواية بغير ما وعي مِنِّي كحبيبة بديلة عن زوجتي التي
ضقتُ بإباقها وسئمتُ شماسها؟ أكان ذلك ما نزع بي إلى قتل حبيبها وحرونها عن الزواج
من بعده على غير ما كانت تقتضيه الحبكة؟! ثم جحظت عيناي ونفرَ أخدعاي دَهَشًا
عندما سألتني زوجتي:
- هل قرأت الرسالة التي كانت في جيب رداء نومك؟ أعرف أنِّني عصبيَّة,
ولكن مَن غيرك ليتحملَّني؟ أوَ تدري كم أُحبُك؟