مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المشاركة رقم 54 (مارس 2016): أسئلة الأيام الصعبة

المشاركة رقم 54
أسئلة الأيام الصعبة
بقلم/ خليل حسن محمد الزينى ـ مصر
"سأظلّ شابّاً على الرغم من مرور السنين لأني ملتصق بدنيا الشباب" كان هذا شعاري و أنا على أبواب التعيين بالجامعة.
فعلى مدى عشرين عاماً من الالتصاق بصفوة شباب الجامعة في الكلية تدريساً و التحاماً معهم في أنشطتهم... كنت أشعر كل عام بتجدد أملي و أفكاري، و لكن منذ خمس سنوات بدأت أشعر بالملل، و سأم يتسرّب من عيون إخوتي الطلاّب لينصبّ في رؤيتي... أكيد هذه آثار آخر مناقشة فكرية مع الطلبة حول توقّعاتهم للمستقبل، لقد شاعت بينهم روح اليأس حتى صارت الشيء الوحيد الذي يتفق عليه أغلب أبناء هذه المرحلة...
نبّهني تداخل أصوات... إنه عراك كل سنة حول بطل الدوري و مسابقات الكرة؛ خرجت أستطلع الأمر، و كم كانت الصدمة! الشجار كان يقوده أحد الأوائل الذي سيصبح في يوم قريب زميلاً، أستاذاً!.
ترحّمت على أيام الماضي الجميل عندما كنت طالباً أهتمّ بقضايا الوطن و همومه، و نعلن رأينا صراحةً: آه، لقد استطاع ياسر بأسئلته أن يصبّ اليأس في نفسي، جعلني أبكي على الماضي و أنسى حبي للغد.
معذور ياسر في كل أسئلته؛ فهي إلى حدّ ما صحيحة، و هذا أول سؤال رأيته بعيني... كان السؤال عن البحث عن متنفَّس للانتماء و التعصّب، فليس هناك سبيل إلاّ الكرة.
ياسر كان يلاحظ  هذا جيّداً، و جعلني أنصرف إلى بعض المظاهر... الأزياء ألوانها غريبة و تراكيبها متناقضة، إنه نفس الإهمال المقصود في الزيّ الغربي، حاولت الدفاع بأن هذه الأشياء في القشرة؛ ردّني ياسر بأن هذه القشرة هي سلّة المهمَلات، و الشيء الوحيد القادر على تنفيذه من النموذج الغربي... أما ما عدا ذلك فممنوع.
صدق ياسر، عشرون عاماً مضت و أنا أدرّس النموذج الغربي للاقتصاد و لم أُقدّم ما يدلّ على اعتزازي بفكري و لغتي و قوميّتي... شاركت في ترجمة بعض الكتب، لكن هذا ليس بدليل كافٍ.
ظلّت مقالة ياسر و همومه تلحّ عليَّ حتى و أنا صاعد على الدرَج لزيارة أختي العائدة إلى الوطن بعد غياب سبع سنوات في الوطن البديل... ماذا أصاب الحيّ؟! أهذا هو الحيّ الذي نشأت فيه و كان على أطراف المدينة و سكّانه قلّة؟!
الشارع جراج مفتوح، و السيارات على كل شكل كأحد مظاهر الثراء و زيادة المال على عكس ما أرصده اقتصادياً!
صعدت على الدرج حتى الدور الثالث، و كم كانت صدمتي! فكلّ ما صادفني شركات بأسماء أجنبية، و طبعاً هم "الوكلاء الوحيدون".
بكل فخر السلع تدلّ على الاستهلاك المظهري و الترفي، أما أخبار أختي فقد زادت الصدمة؛ لقد عادت هي و زوجها الأستاذ الجامعي لتشارك في "سوبرماركت الجامعة" كما يسمّيه ياسر، ستكون ممثّلة الجامعة الأم في فرعها الخاصّ هنا... هذا نوع من الاستهلاك أضرّ من الاستهلاك المادّيّ... لقد أصابتني عدوى الشيخ ياسر!؛ فوجئت بكناية ياسر القديم على لساني... ياسر هو أيضاً سؤال... يفجّر أسئلة.
أكثرنا مالاً و أشدّنا التزاماً من حيث الدين، و لم يفرض طبائعه على أحد منا و لم يخرج بفكرة علينا. كان فكره لنفسه، و الأغرب أنه تزوّج كندية. الأجمل حين يحاول ياسر ردّ المتدينين الجدد بالعقل والمنطق، كثيراً ما كان يكفّ الحوار دون نتيجة على الرغم من قوة حجتة! لماذا لا يكمل الحوار؟! غالباً لأنه يشعر بعدم صدق هؤلاء المجادلين.
مررت بفيلاّ "ناجي"... كما هي لم تتغيّر، الوقت غير مناسب للزيارة... على استحياء و خجل طرقت الباب. فتحت أم ناجي الباب و هي ترحّب بي و تبدّد خجلي و تلومني على عدم السؤال، نادت الخادمة - هاجر- ثم سألتني:
ـ هل أنت جائع لكي أُعِدّ لك الغداء؟
كفّت عن الإلحاح بعد أن علمَت أني كنت في ضيافة أختي؛ فاكتفت بمشاركتي القهوة، و شاركتني الجلسة مع ناجي في الورشة... لقد حوّل ناجي جزءاً من "التراس" العلوي إلى ورشة لأشغال الدعاية و الإعلان، فهو فنّان رسّام و خطّاط؛ استعان بموهبته على متطلبات الحياة.
مع رائحة القهوة على الموقد الكحولّي ظهرت رائحة الوفاء للقديم و الحب بلا غرض أو هدف و "رُبَّ أخٍ لي لم تلده أمي".
تلقّيت الفنجان من يد أم ناجي و سألتها عن سرّ عودة هاجر الخادمة. الجواب كان قصيراً و مريراً: إنه السفر... بعد زواجها سافر الزوج إلى الخارج، و عاد بالخير، لكن لامرأة أخرى و مشروع بعيد عن صنعته، فطرقت باب البيت الذي تربّت فيه...
الصور التي رسمها ياسر بأسئلته وضحت ملامحها القاتمة الآن، دخلتُ أتروّح خلال تكعيبة العنب و رائحة مزروعات أم ناجي التي كانت تردّد: "قال يا ناكر خيري، بكرة تعرف قيمتي من قيمة غيري".
ماذا؟! اعترتني الدهشة و الرغبة في الضحك بصدق، أم ناجي - شهرت هانم- تتحدّث بالأمثال الشعبية! لا بدّ أن المجتمع انقلب رأساً على عقب! تنبّهت إلى أن "فيلاّ سبأ" المجاورة للحديقة في سبيلها للهدم.
أم ناجي تقصّ عليّ خبر الفيلاّ المشؤومة... لا، هناك شيء جديد في طباع ماما شهرت! قد صارت تتناقل أخبار الناس:
"صاحب الفيلاّ ضابط أُحِيلَ إلى الاستيداع و دخل زمرة رجال الأعمال، سعدت الزوجة بنجاح زوجها.. شبّت البنت الصغرى حرّة أكثر من اللازم..."، "اختلى بها شابّ في الفيلاّ أكثر من مرة"!. ألجمتني الجملة، لعلّها من نسج خيال الرواة...
"و من أجل إتمام الزواج البنت سرقت خزينة الوالد و هربت مع الولد الملعون... تركها فريسة لثلاثة من أصدقائه الذين حاولها قتلها، و ها هي بالمستشفى بين حياة الأموات أو موت الرحمة"! و أخذت تدعو لها به."
أسئلة ياسر الصباحية تُفسِد النهار و الليل، و العمر كله...
بدأت أسجّل ملاحظاتي في ورقة، و أسئلة ياسر في ورقة أخرى...
دخلت أتنسّم عبق الوفاء للصديق، و الأمانة في مأمور ضرائب رفض رشوة كبيرة يوماً ما... خرجت و أنا أسجّل سؤالين: لماذا كثرت الجرائم و تعدّدت أشكالها؟ ما دلالتها؟
أسرعت إلى المنزل، جوّ الشارع يسوده التوتر و الخمود المترقّب...
حرس العمارة قابضون على المدافع باسترخاء، سيّارة الشرطة تقف في المقابل و معها سيّارة إسعاف...
إلحاح الجريمة و ربطها بالاقتصاد - تخصُّصي- جعلني أفرّ صاعداً اشمئزازاً، فتحَت حماتي الباب، هي عندها حلّ الأسئلة الصعبة!
لِمَ؟
إنها أستاذة في علم الاجتماع، و كم من مرة نقدت تخصّصها بأنه... و...
إني بحاجة إليها الآن لتحلّ لي الأسئلة الصعبة...
سلّمتني نسخة من بحثها الجديد وقالت:
- كنت أحاول استقراء المجتمع فوجدته على بابك يقرأ نفسه...
- كيف يا أستاذة؟!
- حفل الزفاف الذي دُعيتَ إليه منذ أسابيع، ها هم أصحابه... يتعاركون و تظهر ظروف النشأة الأولى في تصرّفاتهم... على الرغم من تقاربهم الفكري بالتعليم الجامعي لا الثقافي.
غبت عن حديثها و أنا أسترجع حديث القاعة يوم الزفاف، فالعريس ابن رجل من كبار التجّار، وكيل لاستيراد حديد التسليح، و البنت من العائدين إلى الوراء، فأمها بنت باشا رأسمالي، و الأب رجل صناعي يجاهد لكي لا يتجاوز حافّة السقوط، دخل لعبة الحياة النيابية مستغلاًّ خبرته و تاريخه، نجح و راجت أنشطته و ظلّ في صفوف الكبار، كل الأهل باركوا هذا الزفاف...
عقب عدّة أسابيع غاب فيها العقل و هدأ فيها الشوق بدأ كلّ منهما يتصرّف نحو الآخَر بلا حرَج، فكان التصادم.
تنبّهت إلى حماتي و هي تجذب الورقة من يدي...
أسئلة ياسر الصعبة...
ضحكت بصوت عالٍ... الآن آمنت بأهمية علم الاجتماع...
أومأت برأسي أن نعم، لا بدّ أن هناك سرّاً و هناك حلاًّ لأسئلة ياسر الصعبة...

كان الجواب سريعاً... و لكنني لم أعُد أتهيأ بعد لكي أتلقّاه...