ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الأول
طريد البؤس
بقلم أ/ عبد الباسط واكية (سوريا)
ما أذكره من حياتي الماضية هو شيء أشبه
بالحلم:
أتذكّر حارتنا الفقيرة المنسيّة، وأتذكّر
كيف يتبادل الرّجال لفافات الحشيش، وكيف تُشجّ الرّؤوس وتكسّر الأسنان والأيدي في
العراك من أجل طير حمام…!
أبي يدخل البيت ثملا بعينين حمراوين، يضرب
أمّي ضربا مبرّحا، وأنا أجلس في زاوية الغرفة كأرنب مذعور!
أمّي تغادر البيت مطلّقة، وأنا أحلّ
محلّها في الضّرب والتّأنيب!
وذات جوع، قرّرت الخروج للبحث عن شيء
يؤكل، مشيت ومشيت من دون هدف!
كان الجوع يفتك بمعدتي عندما قصدت حاوية
قريبة من محلّ لبيع الفلافل، أفتح تلك الأوراق التي تُلفّ بها السّندويتشات، فأجد
بين طيّاتها لقمة خبز مع بقايا خسّ وطماطم وفلافل، طعمها لذيذ جدا!
لقد شبعت، حقّا شبعت، بل وشربت (الكولا)
أيضا من العلب المرميّة في الحاوية، لم أشعر بامتلاء المعدة منذ طلاق أمّي.
غادرت الحاوية تاركا المجال للقطط لتشبع
أيضا...!
وجدت نفسي في سوق من الأسواق وقد حلّ
الظّلام.
ساقتني قدماي إلى زاوية فيها بعض القمامة،
وجدت كرتونة كبيرة يمكن أن تتّسع لجسد طفل نحيل في الثّامنة من العمر.
كانت تفوح من الكرتونة رائحة الأحذية
الجديدة، أغمضت عينيَّ وأسلمت نفسي للنّوم.
كانت ليلة هادئة هانئة لم أر فيها حلما
واحدا!
قصدت المرحاض العام، قضيت حاجتي وأنا
أتأمل على جدرانه كتابات ورسومات كتلك النّقوش التّاريخيّة التي شاهدتها يوما على
التّلفاز، والتي تركتها الحضارات القديمة على جدران المعابد، لم أفهم الكتابات،
ولكنّ الرّسومات تبعث على الخجل، هذا جعلني أستبعد أن تكون نقوشا ستترك كآثار
للأجيال القادمة…
غسلت وجهي ومسحت شعري وغادرت إلى الحاوية
لتناول وجبة الإفطار!
ثمّ ذهبت لأتجوّل في الأزقّة كالكلاب
الشّاردة أدقّق في الوجوه من بعيد، أخشى أن يكون أحدها لأبي.
في المساء، لم أجد شرنقتي، أقصد الكرتونة،
ولكن في سوق كهذا لا تنقطع الكراتين.
تفوح من هذه الكرتونة رائحة (الفانيليا)
لا شك في أنّني سآكل الكثير من البسكويت في أحلام هذه اللّيلة!
لم تمض السّنة الأولى من التّشرّد إلا
وحولي عشر كراتين، يخرج من كلّ واحدة طفل، نفترق نهارا ونجتمع ليلا...
ثلاث سنوات مرّت على هذه الحال، ولا أظنّ
أنّ أبي قد تأثّر لغيابي، وغالب الظّن أنّه يعتقد بوجودي عند أمّي الآن.
أمّي التي لا أعرف أين تكون، ولو عرفت
لذهبت إليها، أظنّها تزوّجت، فهي ماتزال صغيرة وجميلة…
أنا الآن داخل الكرتونة، أغالب النّعاس،
وعلى عقلي أن يصمت أيضا حتّى أنام، فغدا بانتظاري فجر جديد وأزقّة جديدة!
لقد كان فجرا جديدا حقا، فعلى غير العادة،
جاء عمّال البلديّة لجمع النّفايات، يوقظون الأولاد النّائمين من حولي، ويرمون
الكراتين في براميلهم ذات العجلات!
قال لي العامل:
قم يا ولد، انهض، نريد الكرتونة، فتحت
عينيّ!
كان وجه أبي!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الثاني
وداعاً روخشانا
بقلم أ/ عبدالكريم الساعدي (العراق)
الساعة العاشرة صباحاً، المكان غارق في
سكون مريع، يرسم لوحة شوهاء على أطراف بلدة فيروزكوه*، لا يقطعه سوى صراخ منبعث من
حفرة، اتّخذت شكل قبر بلا شاهد، ترقد وسطها روخشانا، فتاة في العشرين، تتنفس
رعباً، يترنّح الاستغراب فوق ملامحها، وحيدة تواجه موتها على أعتاب عالم ممعن
بالخراب، ملتحف بالوهم، تحدّق إلى خطيبها المنبطح أمامها، شاب وسيم، عارٍ إلّا من
سرواله الداخلي، ينتظر أنشودة الجلد، يحيط بهما رجال معمّمون، وأمراء حرب، يتْلُون
آية الرجم والجلد، وآخرون يحملون هواتف محمولة بانتظار حفلة الهراء، هو يستدير
نحوها، يستوي على أنقاض لهيب الفزع، بعدما رقص سوط العقاب على ظهره، يتبادلان
نظرات أخيرة، يتذاكران أياماً خلت، بلّلها ندى العشق عند شجرة علقت على أغصانها
أماني ومسرات، يرفرف الطير لحبهما؛ المسافة بينهما تتقلص، يُخيّل إليه أنّه يلمس
شعرها، يقبل جبينها كما الأمس؛ بيد أنّ الحلم تلاشى مثل دخان في مدى بعيد؛ تنزلق
الدموع على خدودهما موشّاة بالأسى، دموع تحكي سرّ أحلامهما الميتة على دكّة
الخليفة.
تطلّ عليهم بسؤال بريء، تستجدي عطفهم:
-
ما الذي فعلناه؟ ألم تعلموا
أنّنا خطيبان؟
-
ولِمَ فررتما من البلدة؟
-
كانت محاولة للعثور على مكان
نعقد فيه قراننا.
-
وزوجك؟
تلعق أصابع دهشتها، تستجير بأغلظ الأيمان:
-
والله، ما تزوجت من قبل، ولم
يطأني رجلٌ حتى الساعة.
-
وكيف تدفعين شهادة هذين...؟
-
لم أرهما من قبل.
لا أحد يكترث لأقوالها؛ تنادوا فيما بينهم:
-
عليكم بالحجر.
-
ما لكم كيف تحكمون؟ فأنا لستُ
محصّنة.
تستغيث بالسماء:
- إلهي، أنت تعلم
أنّي لست زانية، وما يفكر به القوم محض ظنون.
ينقطع نداء الاستغاثة لمّا انغرز التكبير
في أذنيها، ترعد بالتشهد؛ المسافة بين التكبير والتشهد ليست بعيدة، تمطر حجراً كي
تدكّ بكارة الأرض، تتّقيه بيدين رقيقتين دون جدوى؛ وقبل أن تغرق بدمائها وتهوي إلى
الأرض جثة هامدة، تفتح شباك العتب:
- أيّها الحبيب ألم
تقل في لقائنا الأخير: أنّنا روحان في جسد واحد، أنا متُّ؛ فلماذا لم تمت أنت؟
يصفعه الصدى، يقف ذليلاً، منكسراً، تدمع
عيناه، يومض ظلّها المتماهي مع ظلال الشجرة من بعيد، يتّكئ على صرختها الراعدة
أصداؤها في الآفاق:
- لم يكن لي خيار
إلّا أن أتّبع خطاكِ، الموت يتسع لنا جميعاً... وداعاً روخشانا.
يجرّ خطاه متثاقلاً
صوب الشجرة، كحصان مريض ينتظر رصاصة الرحمة.
______________________________________________
*فيروزكوه: مركز ولاية غور وسط أفغانستان.
*فيروزكوه: مركز ولاية غور وسط أفغانستان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الثالث
قبضة وطن
بقلم أ/ حسان عبد
القادر الشامي (سوري مقيم في ليبيا)
إنها تمام الثانية قهرا، حسب توقيت رصيفنا
الذي نفترشه.
لا شيء جديد يذكر منذ صباح هذا اليوم
البارد حتى هذه اللحظة. سوى بعض عبارات قذفها علينا بعض المارة. لم يعد لدي فلس
واحد ومرغمة صباح الغد أن أبيع تلك الأقراط الفضية التي في أذني طفلتي الرضيعة، كي
أتدبر طعام أبنائي الثلاثة وأباهم الضرير.
نسيت أن أعرفكم بنفسي: أنا (أمل) مدرسة
لغة عربية وأكتب لعدة مجلات وصحف عربية. نزحت من بيتي الواقع على الشريط الحدودي
مع عائلتي بعد أن دمر الطيران معظم قريتنا التي غدت قرية أشباح. زوجي هذا مهندس
جيولوجيا نعم هو ليس ضريرا لكنه فقد بصره حين وقع انفجار عظيم في السوق.
لا أدري كيف هاجمتني حالة هستيرية من
الضحك وأنا أحدث نفسي بعنوان مناسب لوضعي الحالي (الأديبة ملكة الرصيف) لن ينازعني
أحد مملكتي هذه ولو كان من أعتى المتسولين. خشيت أن يستيقظ الأولاد على صوت ضحكاتي
بعد أن عييت بهم وأنا أخبرهم بأننا سنكون غدا بخير ونأكل أطايب الطعام.
تسلل البرد إلى عظامي وصفير الريح من خلال
أبواب المحلات التجارية يعوي كذئب ذبيح.
أكوام من الأسئلة تثقل رأسي المتعب، كيف...
متى... أين...
لا إجابةّ!
ستشرق الشمس وأنا لم يغمض لي جفن، لماذا
تجهمت لنا الوجوه وصرنا أغراب بين بني جلدتنا؟!
أيعقل أن أكون وأنا وعشرات الأسر لا نجد
سوى الأرصفة والحدائق سكنا؟!
هههههههه لا يخطر في بالي سوى الشعارات
التي كنا نرددها ونحن صغارا، (بلاد العرب أوطاني وكل العرب إخواني... أمة عربية
واحدة) ما هذا الهراء!؟
أنا لست مع أحد ولا ضد أحد ولا أنتمي لأي
تيار او حزب أو جماعة ومئات الألوف مثلي، ألا يحق لنا بربكم أن ...
سيارة للشرطة تقطع حبل أفكاري...
يترجل منها ضابط وعدة جنود معه، همست في نفسي لقد جاء الفرج.
اقترب الضابط مني قائلا: ماذا تفعلون هنا يا
امرأة
ابتسمت قائلة: نحن هنا منذ أمس ولا مأوى
لدينا نحن من ...
صرخ في وجهي مقاطعا: خذي هذا العجوز الخرف
وهؤلاء الحيوانات وإلا سجنتكم بتهمة التسول... هيا لقد ضجرنا وقرفنا من أمثالكم.
نظرت به وبكاء الأطفال فزعا يملئ الشارع
الخالي وزوجي يبحث بيديه عن حذاءه وهو يتمتم:
يا سيدي المحترم (الأيام دول)
حملت عفشي الذي هو قطعة كبيرة من الكرتون
وباليد الأخرى أجر زوجي الضرير و أبنائي، وصوت فيروز الذي سمعته في الحافلة التي
أقلتنا يوم تركنا قريتنا لا يفارق مخيلتي:
(راجعين يا هوى
راجعين) أسأل نفسي: هل عاشت فيروز نصف ساعة من القهر الذي عشناه لسبع سنين.
عند أول محل صياغة وقفت كي أبيع القرطين
همست لزوجي أن يعطيني طفلتي التي يحملها باليد الأخرى.
على طاولة الرجل كانت الطفلة مجمدة
الأطراف لا تتحرك.!
دمعت عيني الرجل قائلا: البقية في حياتك
يا خالة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الرابع
غابة الخنازير
بقلم أ/ محمد نايف أحمد (العراق)
رفعت بنات آوى عقيرتها وهي ترى الحملان
الوادعة تجلس، ولأول مرة، على مائدةٍ مستديرة مع أسد الغابة اتّقاء شرّه، فيما
غضّت الطرف عمّا تفعله هي ومثيلاتها من صفقات مشبوهة تجري على قدمٍ وساق مع
الخنازير البريّة التي عاثت بالغابة الفساد.
قال حملٌ مسكين بدا عليه ضمورٌ وهزالٌ
شديدين:
-
أيّتها الحيوانات، نحنُ معاشر
الحملان أمضينا العمر كلّه نعارض غطرسة الأسد المقيتة، لكننا لم نرَ من جميع
حيوانات الغابة غير الصمت والتنديد، وها أنتم كما ترون.. الأسد يزدادُ قوةً إلى
قوة، فيما تراجعنا نحن معاشر الحملان مئات السنين للوراء.
وهنا صاح حملٌ آخر:
وهنا صاح حملٌ آخر:
- زرعتُم في روعنا
منذ بواكير تفتّحنا أنّ الأسدَ وحدهُ هو مصدر الخطر الحقيقي للغابة، ونسيتم ما
فعلته الخنازير البريّة من قتل أربع شياهٍ في ليلةٍ واحدة. أما آن الأوان كي ندرك
مصدر الخطر الحقيقي، ونحرف مسار رؤيتنا علّنا نسلم على ما بقي من رقابنا.
ضحكت بنات آوى للجملة الأخيرة التي تفوّه
بها الحمل المسكين، ونعتته على أن لوثةً فكرية ألمّت به.
قال حمارٌ هرم ذو حظوةٍ عند بنات آوى على
أنّه حكيم الحمير:
-
معاشر الحملان، تجاربكم ما
زالت غضّة في ميدان التعايش في الغابة، فالخنازير يجمعنا وإيّاها مصيرٌ مشترك، إذ
لم نر منها سوى حسن السيرة والسلوك.
تهلّلت بنات آوى فرحاً للجملة الأخيرة التي
تفوّه بها حكيم الحمير، ونظرت نظرةً ملؤها التشفّي لمعاشر الحملان التي أُخمد
صوتها.
لاذت الحملانُ بصمتها وسط هذا الخراب
الكوني الحاصل في أرجاء الغابة، وقرّرت أن تزهد بأيّ تغييرٍ من شأنه أن يرتقي
بمستوى الحيوانات ، والانقلاب على الأفكار الرجعية التي زرعتها بنات آوى في
أذهانها.
سرتْ شائعات مفادها أنّ خنازير الغابة
المجاورة تعتزم الإغارة على حقل الحملان مستغلةً بذلك سياسة الانبطاح التي تنتهجها
بنات آوى ومثيلاتها. علتْ وجه أحد الحملان غمامة حزنٍ وهو يفكّر بالمصير الأسود
الذي ينتظر بني جنسه، فخرج قُبيلَ الغسق نحو تلٍ معشوشب يطلّ على الغابة، وهنالك
كانت الصدمة أكبر مما توقّعها ذلك الحمل المسكين، إذ رأى، وهو في موقعه ذاك، أنّ
بنات آوى تجلس مع جمعٍ غفير من الخنازير في صفقةٍ مشبوهة تقضي بتمكين الخنازير من
رقاب جميع الحملان، وتزيين الأمر لحيوانات الغابة على أنّ الأسد هو المصدر الأوحد
الذي يهدد أمن الغابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الخامس
لا وقت للحزن
بقلم أ/ شاهيناز محمد الفقي (مصر)
غادرتنا دون وداع، قاومت
الألم طويلاً ثم استسلمت ثم رحلت، وقبل رحيلها ألقت في حجري بثلاثة أطفال، تعلقوا
بذيلي يسألونني عن سبب رحيل أمهم صباحاً ومساء. رضيعة تصرخ بلهفة تبحث عن الحنان
في ثدي الأم، طفل يطوف الحجرات ليلًا يبحث عن وجهها الذي كان يألفه، والكبرى تندس
في حضني تبكي وجع الفقدان. الحزن والبكاء رفاهية لم يتسع لهما وقتي، ابتلعت مرارة
فقدانها لتستمر الحياة، الصخب والضجيج من حولي وداخلي كان ساكنًا، الابتسامة تغزو
الوجوه والقلب حائر، هل من حقي أن أبتسم وقد انطفأت ابتسامتها للأبد. ضميري يؤرقني كلما هبت على القلب نسائم فرحة، أخجل من لحظة
سعادة تكون عنها غائبة، حتى صور الذكرى لم يعد لها معنى دونها. لم يعد في الكون
شيء مكتمل، الربيع تنقصه الألوان والضحكة تنقصها الروح حتى الشجر طرد عصافيره، لم
يعد هناك على الأغصان مساحة بعد أن احتلها الغربان. الأصدقاء تحولوا لتاريخ، الفسح
والزيارات من المستحيلات، الحب والغرام من الأساطير.
الأوقات
الصعبة بطيئة وطويلة، تمر فوق الأيام فتدهسها، تذبح العمر بلا شفقة، ولا وقت لدي
للحزن. رضيعة الأمس أصبحت اليوم فتاة جميلة، تحمل حقيبة منتفخة بالكتب والكراريس،
تقبلني وتقول، ماما لابد أن تحضري حفلتي المدرسية، لابد أن يعرف الزملاء أن أمي
جميلة، ثم تستدرك الكلام وتقول وأمي التي في السماء أيضًا جميلة، تنزل بضع درجات،
ثم تعود لتقبلني وتقول:-
أحبكما يا ماما.
أحبكما يا ماما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز السادس
على حافة السقوط
بقلم أ/ وسام محمد دبليز (سوريا)
تتسلل أصابع
الكلمات نحو خصري تحيط بي وترميني عاشقة فوق هضاب جسده، أفقد توازني أخاله أمامي،
هل لكلمات أن تتحول لأصابعٍ تثرثر بلهفة فوق تضاريس جسدي، وأنفاس تلامس وجهي
فترميني في فراش الهيام.
أيمكن حقاً أن
تنتقل عبر فضاء خلّبي لتبعثرني كلما برق اسمه باللون الحشائشي في شاشة متصفحي؟.
هي دعوة للحب قدمها
لي، لما لا ألبي دعوته المجنونة؟ لما لا أحيل حبه لنار تلتهمني وتلتهمه؟.
لمرةٍ واحدةٍ فقط،
أعظم الفتيات يتذوقون طعماً آخراً للحب.
هو قال:أن الحب هبه
زرعها الله فينا لا لنقتلها بل لنسعد بها حين يتحد الجسدان في هزة تزلزلهما حتى
الثمالة.
سأذهب دون موعدٍ
مسبق وأفتح أبواب الدهشة حين يراني حورية قذفتني أمواج الشوق إليه.
أمام المرآة وقفت
أتأمل تفاصيل جسدي الغض الأبيض ينبض شوقاً لصدره، انزلق ثوب الدانتيل الأبيض فوقه
ليزيده أنوثة وارتمى شعري على كتفي، رذاذ العطر أحاط بي ليفتح أبواباً أخرى للعبور
بشوق ولهفة، وحذاء بكعب عالٍ زادني إغواءً، وزهرتي ليمون تفتحتا على أذني بفرح .
عينا أمي في صورة
يقطع زاويتها شريط أسود حاولتا أن تردعني لكني أدرت ظهري متجاهلة إياها.
عصا أبي أمام
السرير حاول ردعي متوعداً أن يأكل من جسدي إن خطوت خطوة واحدة في الطريق الخطأ،
صممّتُ أذنيّ عن كل تلك الضوضاء هامسةً : لليلة واحدة فقط أطفئ بها ناراً ما زالت
تجذبني بجنون إليه.
أعطيت العنوان
لسائق التكسي وما زالت كلمات أمي عن الفضيلة تتعملق في رأسي فأطردها، وثرثرة نساءِ
الحي عن كل فتاةٍ لوثت بياض عفتها بهفوةٍ صغيرة فأتجاهلها.
رجفة اجتاحت قلبي حين توقفت السيارة أمام العنوان المطلوب، يد ما حاولت ردعي، تقدمت كأميرة خجولة نحو حب ما توقف عن مناداتي.
رجفة اجتاحت قلبي حين توقفت السيارة أمام العنوان المطلوب، يد ما حاولت ردعي، تقدمت كأميرة خجولة نحو حب ما توقف عن مناداتي.
وقفت عند الباب
للحظة ممسكة بقبضة الباب وصوت أمي يعلو وعصا أبي تضرب أفكاري.
طرقت بوابة العبور، صوت خطواته تجاه الباب أوقدت
شعلة الخوف في أعماقي وسكبت لوناً وردياً على وجنتي.
عند عتبة الدهشة
وقف بجسدٍ شبه عارٍ، التهم وجهي بسرعة فصدري فخصري ليستقر عند ركبتي بفرحٍ لذيذ
ورائحة لخمر ثقيل تسربت إلى أنفي.
صوتٌ أنثوي صدر من
الداخل متوجها نحو الباب وهي تحاول لملمة فوضى شعرها وثيابها مما أثارته شفاهه في
جسدها، حاول مواربتها خلف الباب لكنها أبعدته بنزق، ووقفت أمامها عارية من كل شيء
أعد نفسي وجبة له بعد خروجها من وكره المغلق.
دوار أقتحم رأسي
وارتخاءٍ شديد اجتاح مفاصلي وانقباض في معدتي، وبسرعة تقدمت للأمام بجزعي ويدي
تحتضن أمعائي متقيأة إياه دفعة واحدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز السابع
سي السيد
بقلم أ/ أحمد توفيق محمد علي (مصر)
أمسك أنامل يديها في حنان، يقترب منها،
يجلس بجانبها على تلك الأريكة الوثيرة، ينظر لعينيها، يحتضنها بشدة فتذوب في
أحضانه، يلثم شفتيها ثم يغيبا معا في قبلة عنيفة؛ لا يدريان كم مضى عليهما في تلك
القبلة؟!... هل هي لحظات؟... دقائق؟... ساعات؟... أو ربما توقف الزمن عند هذه
القبلة... كانت تذوب رويدا رويدا في قبلته حتى خُيّل إليها أنها انصهرت بين شفتيه؛
أغمضت عينيها وكأنها تحاول الاحتفاظ بصورة تلك القبلة بينهما؛ لا تريد أن تفتحها
مخافة أن تتلاشى تلك الصورة الجميلة وتختفي... قبَّل خدها الناعم، همس في أذنها
وكأنه الحلم: أحبك.
تلتصق أكثر في أحضانه، تهمس في أذنه:
- أشعر بذلك الحب؛ إنه بداخلي، يذوب في
دمي وفي عروقي؛ أريد أن يتوقف الزمن عند هذا الحد، أريد...
يقاطعها في همس وهو يقبل وجهها وعينيها
ضاحكا:
- أريد أن أعد لك طعام العشاء بنفسي.
ـ لا يا حبيبي؛ سوف
أقوم بإعداده أنا فأنت مرهق من يوم عمل شاق.
ـ لقد نسيت تعبي يا حبيبتي لحظة احتضانك؛
سأعد لك عشاء على ضوء الشموع.
نهض متجها ناحية باب المطبخ وهو ينظر
إليها ويلقي لها بقبلة في الهواء واختفى بالداخل.
ألقت بظهرها على الأريكة ونظرها لا زال
معلقا باتجاه المطبخ، أخرجت من داخلها تنهيدة ملتهبة تنم عن سعادة لا توصف، تحتضن
صدرها بيديها، تتمنى أن يعود بسرعة من الداخل؛ لا داعي للعشاء؛ فهي تشعر بتخمة من
المشاعر والأحاسيس الجميلة بداخلها... تريده هو فقط؛ نهضت وهي ما زالت تحتضن صدرها،
تتمايل، تدور حول نفسها على أنغام موسيقى
هادئة؛ تغمض عينيها وهي تدور.
خرج من المطبخ يجر طاولة صغيرة عليها بعض
الطعام وقد أشعل على أطرافها بعض الشموع، يجرها ناحية الأريكة ويتركها، يقترب من
حبيبته، يُمسك بذراعيها ويضعهما حول خصره، يحيط خصرها بيديه؛ يدوران معا على أنغام
تلك الموسيقى الرومانسية الهادئة، يلتصقان، يذوبا من جديد في قبلة عنيفة...
يلتصقان حتى يخيّل لمن يراهما أنهما شخص
واحد... المكان أصبح وكأنه الجنة بعينيها: موسيقى، أحلام، سعادة تتلوها سعادة.
وفجأة عكر صفو هذه الرومانسية صوت باب
يُفتح ويُغلق بعنف، خطوات أقدام ثقيلة تقترب من غرفة المعيشة، صوت أجش في لهجة
آمره ساخرا:
ـ جميل... جميل يا سيدتي... أنت هنا تشاهدين فيلما رومانسيا
وأذهب أنا إلى الجحيم بعد يوم عمل شاق.
يصرخ في صوت يكاد يصل إلى الصراخ: أين
العشاء؟!
نظرت أمامها ناحية التليفزيون؛ لا زال
الفيلم الرومانسي لم ينته... سارت تتلعثم في خطواتها حتى كادت تسقط عدة مرات، وفي
صوت ضعيف يملؤه الخوف بادرته:
- أأ... أمرك... أمرك يا سي السيد.
خرجت من المكان باتجاه المطبخ ونظرها لا زال
معلقا باتجاه التليفزيون؛ ياله من فيلم رومانسي رائع كانت تشاهده؛ تمنت من داخلها
أن تكون مكان بطلة هذا الفيلم... حاولت أن تحلم من جديد ولكن جاءها صوت زوجها
صارخا مرّة ثانية وقد أفاقها من حلم جميل عاشته لحظات وتمنت أن يدوم إلى الأبد:
ـ العشاء يا امرأة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الثامن
هاجر ولم يهاجر
بقلم أ/ محفوض جروج (سوريا)
كان الشارع العام يسبح في ضوء الصباح
الندي. وقف المهاجر إلى جوار الطريق بقامته النحيلة ، وبوجهه الذي لوحته الشمس، و
بجواره حقيبة سفره السوداء .
استند إلى شجرة بجانبه كسير الفؤاد
والدمعة في عينيه، شاحب الوجه، وقد ارتسمت ابتسامة ذابلة على شفتيه المرتجفتين
يفكر في الدرب المخيف الذي سيسلكه، وهو المثقوب صدره بطعنات الحياة القاسية التي
رسمت أخاديدها على جبهته وكأنه طيفٌ رسمته ريشة فنان .
شعَّ بريق غريب بعينيه الذابلتين، بكى في
هدوء الصباح. انهمرت دموعه قطرات لؤلؤية. كان الأمر ثقيلا ً على روحه، همس في
نفسه: كم أنت جميلة يا مدينتي حين ينام السحر بين جفنيك!. وما أتعسكم أيها المهاجرون
المقتولون وأنتم بالحياة، ستعيشون غربتكم والألم يعتصر نفوسكم!. كم ستتذكرون
ماضيكم الجميل الذي طويتموه في ربوع هذه المدينة الرائعة. لن يكون بإمكانكم
نسيانها لأن الحنين سيرهقكم .
وبعد ذلك حاول التقاط حقيبته فخانته
يمناه، وخارت ثقته التامة بالهجرة، ثم ألقى بوجهه المرهق على الشجرة، حيث بدا كل
شيء واضحا أمامه من خلال غمامة الهجرة القاسية، فتأرجحت بعينيه شوارع وأحياء
مدينته التي تعصف في روحه كريح كثيفة .
عاودته ذكريات الماضي، فتأوه طويلا، وطفرت
من عينيه دمعتان انهمرتا بين أخاديد وجنتيه الذابلتين. ثم بدرت منه التفاتة رأى
فيها ما خلفته الحرب من خراب، فأجهش بالبكاء، وتنفس الصعداء وتمتم ببعض العبارات:
كم هي رائعة هذه النسمات الباردة التي تبعث الحرارة في دمي. كم أنت رائعة أيتها
الفراشة البيضاء، وكم أتمنى أن أضمك إلى صدري .
لن أندم بعد الآن، فما عادت تغريني
الهجرة، فإن نسيتك فلتنسني يميني، لهفتي عليك أنت ما دمت حية، وحبك مغروس كخنجر في
قلبي لا أقدر أن أنتزعه لأنني متعلق بك وبأحلامي التي ستضيع إن هربتُ مصطحبا ً
كآبتي الجارفة .
كيف أنسى شبابي الطافح بالأفكار المفرحة
على دروبك؟. كيف أنسى كل شيء مما مضى؟. كيف أنسى السنوات التي بددتها في العمل على
ازدهارك، فكما ترمي الشجرة أوراقها الصفراء ها أنا أرمي كلمات الهجرة المعسولة عني
وأتركها للريح كي تذروها .
لم أتبين ملامحك بكل هذا الوضوح إلا الآن،
فالأشياء الكبيرة لا ترى إلا من مسافة بعيدة. ها إني أتفادى السقوط في دوامة
الهجرة. سامحيني فلم تعد الهجرة تعنيني.
وحمل حقيبة سفره السوداء وقفل راجعا إلى
بيته الصغير مبتهجا، ولم يعد الارتعاش يخايل أفكاره ويقضُّ مضجعه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز التاسع
خِلافةٌ مُبَكِرةٌ
بقلم أ/ أحمد مهدي (العراق)
مُتَوجساً من كلِ شيءٍ يَقرَبُ الحدّاثة، عيناهُ
اعتادت لغةَ الأرضِ لا تقرأ سواها فهو لا ينظرُ إلى الأمامِ ولا يضعُ أهميةً
للمستقبل همه الوحيّدْ هو ما يحصلُ لحياتهِ بعد ثوانٍ، لا يَعْرِفُ في يومه غيرَ
الأوقات الخمسة يجتمعُ مع الأكثريةِ وينادي معهم ليتفرقوا، فيَبقى وحيداً ينتظرُ
نفادَ بعض الوقت ليجتمعَ معهم من جديدٍ، كان أكثرهم كلاماً وأكثرهم خشوعاً وآخرهم
صوتاً وأبعدهم رؤيةً وأعلمهم بخبايا المكانِ وأسرع ناطقٍ للشهادةِ. كان وحيداً لأمه
لا يختلفُ عن بقيةِ الاطفالِ سوى أنه فَقد أباه عندَ أول خطوة مرحٍ يخطوها مع أقرانه
حتى سمعَ صوتَ أُمه تنادي (مرووووان أبوك في خطر!) ليتراجع بسرعة عن إكمالِ ما
بدأ، تاركا خطوته يتيمةً و وحيدةً بين ذرات الرمل تناجي أُخْراها بالعودةِ لإكمالِ
المرح مع بقيةِ الخُطى الصغيرة، لم يَتركْ له صوتُ أمه أدنى فكرة بفهمِ ما يحصل
حيث كان المشهدُ كالتالي ( خمسةُ أشخاص مُلَثمين يحملون أسلحةً داخلَ بيتهم، أثنان
منهم يمسكونَ بأمه والبَقية يعملونَ على ربطِ أبيه بحبالٍ متينةٍ ثم ينهالونَ عليه
بالضّربِ المبرحِ بنهاياتِ أسلحتهم الثقيلة، لِتَنجرَ الدِّماء بعدها نحوَ
الفراغات التي ملأت باحةَ البيت، لترسم لوحةً كئيبةً عِنوانها الأرضُ المُغتصبة،
ليقوموا بعدها بفكِ الحبالِ وقيادته خارجَ البيتَ دونَ أي اكتراثٍ، ليرموا به
خارجَ المنزل مطرزاً بدمائه، لتَلحَقه بعدها مجموعةٌ من الرصاصاتِ الساخنةِ واضعةً
آخرَ الرتوش على لوحةٍ خُلقت دون موعدٍ) تُرك على الأرضِ مع أمهِ الناحبةِ وفَمِه
الصامت وروح شفافة تحلقُ فوقهم دونَ ضجيجٍ، كان الجميعُ ينظرون دونَ اقترابٍ
وينطقون دونَ مساعدة، ليَتقدم بعدها بخطىً لا تناسبُ أعوامه الأربعةَ واضعاً
عجيزتهُ الصغيرة على الارضِ الصلبةِ بدلا من رأس أبيه المدمى ليسابق حنجرة أمه
الناحبةَ ( لا اله الا الله... الله اكبر... لا اله الا الله) ليُصمت كل شيءٍ بعد
صوته إلا صوتَ الدماءِ وهي تنضحُ من رأس أبيه بحرارةٍ لتسقط بحريةٍ بين ذراتِ
الرملِ الناعمة لتَلْتَصق عيناه مُنذ تلك اللحظة مع مسيرِ الدّماءِ ليلغى عنده
المستقبل وتُمحى لديه الأزمان فَيَسقط نهاره بينَ خَمسِ أوقات ينادي بها نحوَ
عليٍّ قديرٍ محرر الدماء وخارس النحب...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز العاشر
في الحلم
بقلم أ/ فاطمة كطار
(المغرب)
على التلّ، قرب
النهر، كنت ٲربّي نفسي على الحُلم٬ ٲو بالٲحرى كان يُربّيها٬ سمعت من جدتي يوما ٲن
ٲحلامنا يحققها الحُلم٬ وٲعطابنا يصلحها الحُلم ٲيضاً.
كانت جدتي طفلة
حالمة لا تكبر٬ بجدائلها الطويلة٬ ونظراتها المشرقة الصافية التي تلوح بعيداً٬
تقول إن الحلم الذي احتضنته داخلها استطاع أن يخلصها من جميع الحروق والندبات٬
كشراب يجعلها تستسيغ كل لقمة تحشوها الحياة في جوفها٬ وكنسمة تسري في حلقها كلما
اختنق٬ كانت حاجتها إلى الحلم كحاجتها إلى الخبز والماء وربما أكثر.
صغيراً كنت والحلم
داخلي٬ أكبر به ومعه٬ أتصل به ساعات طويلة٬ أداعبه٬ أضاجعه٬ نمشي معاً٬ نضحك٬
نغني٬ نرقص... لكني لا أنكر أني استخدمته مرات كثيرة للدفاع عن نفسي٬ وتفريغ الغل
والحقد الدفينين في نفسي وذاكرتي. أذكر أني قتلت "فْقيه المسيد" الذي
كان يجعلني أكتب "الفاتحة" مائة مرة٬ في الحُلم فقط سُمح لي ٲن أطعنه
مائة طعنة٬ قتلت أمّ زينب أيضاً لأنها فطنت لنواياي يوم اكتشفت أننا – أنا وزينب -
نقيم احتفالاً بجسدينا في السطح وتحت أشعة الشمس المتوهجة٬ كانت عادة جميلة قبل أن
تفصح بها زينب لأمها٬ كنا نتخلص من كل شيء٬ أنا وهي والحُلم ثالثنا. أحب زينب وهي
عارية٬ أحب ٲن تتجرد من جميع ثيابها وتكشف عن معالم جسدها وخبايا أسرارها٬ أحب أن أتيه
بين مغاراتها المظلمة٬ الواسعة منها والضيقة. وأنا عارٍ بين ذراعيها الصغيرتين كنت
أشعر بجسدي يخرج من الأقفاص المثبتة في الجدران العالية ليلمس الوجود وينطلق في
رحلة نحو الحياة٬ نحو الحرية.
كانت ابتساماتي
الشاردة الحالمة تزعج أبي الذي كان يراني نسخة صغيرة من أمه٬ حضور جدتي ٲو غيابها
لم يكن أمراً يتذمر منه٬ امرأة هادئة٬ حالمة٬ دائمة الابتسام٬ وهي صفات تليق بكل أنثى٬
لكن الأمر نفسه مرفوض معي٬ أذكر مرة أني عدت من الاحتفال الذي نقيمه أنا وزينب في
السطح٬ كانت قسمات وجهي تكاد تنطق من فرط سروري٬ تائه العقل٬ شارد الذهن٬ كنت
مفرطا في الغياب حتى أني لم أسمع ما كان يحدثني عنه والدي٬ تلقيت منه صفعة زلزلت أحلامي
وبردت منها حرارتها وانطفأ توهجها وغابت عنها حيوتها٬ صرخ في وجهي معاتباً
"جْمع راسْك وتوگضْ وأنت حٙالْ فمْك بحال الضبع٬ الريح لي جات تْدّيك".
بكيت كثيرا ليلتها وانكمشت في حلمي٬ توسلت منه الشجاعة لأجيب ٲبي٬ بدا ذكره هناك
خاليا من أحاسيس الألم٬ لم أصفعه كما فعل٬ بل أهديته القليل من الحلم ليقتل
الحيوان الذي يسكنه.
في الحلم كنت أمشي
عارياً٬ كما في الحمام٬ أغتسل من أدران الواقع الذي أعيشه ويعيشني٬ لأخرج إليه
نظيفا صافياً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز العاشر مكرر
وانهار بيت جدّي…
بقلم أ/ سعاد الفقي بوصرصار (تونس)
بيتُ جدّي قلعة
للسعادة... وواحة للخصب... ونهر من الحبّ.
يقع بيت جدّي في
مفترق طرقات، يقصده المُتعب فيرتاح، يقصده الحائر المتعجّل، يقصده الغاضب، تتبدّد
الحيرة، تُقضى الحاجة، يزول الغضب...
في بيت جدّي الماء
أكثر عذوبة... وأشعة الشمس أكثر سناء... والتربة أكثر سخاء...
للحبق المتسامق والنعناع المتعرّش في حديقة بيت جدّي أريج دائم يغمر الداخل والخارج... ولطعم البرتقال لذّة متفرّدة، وللنسيم لطف وحنان.
للحبق المتسامق والنعناع المتعرّش في حديقة بيت جدّي أريج دائم يغمر الداخل والخارج... ولطعم البرتقال لذّة متفرّدة، وللنسيم لطف وحنان.
في بيت جدّي نلتقي
ونمرح ونفرح، تستقبلنا جدتي بالأحضان والقبلات، لا تكلّ ولا تملّ…
جدّتي روح البيت وقوامه، نحلة دؤوب تشتغل بلا انقطاع…
جدّتي روح البيت وقوامه، نحلة دؤوب تشتغل بلا انقطاع…
نأكل ونشرب ونُحمّل
بحاجات صغيرة عند رواحنا، تكون جدّتي قد حفظتها لنا لأنّها تعلم أنّنا نحبّها.
جدّتي تصنع الحياة
والبهاء في البيت، جدّتي توزع الحبّ والحنان بسخاء، وتؤثث حياتنا بالخير والتفاؤل.
في بيت جدّي أنسى
زحمة الطرقات، وتلوّث المدينة، وخبث البشر، ومشاكل الحياة،
جدّي وجدّتي نهر محبّة نستحمّ في مياهه العذبة والدافئة ونسعد...
جدّي وجدّتي نهر محبّة نستحمّ في مياهه العذبة والدافئة ونسعد...
هو يعمل ويكدّ، وهي
تنفق وتجتهد… هما مثال للتّفاهم والتناغم. حتّى عندما يختلفان على أمر ما، يُنهيان
الأمر بالودّ المعروف...
كلاهما سكن ومودّة
للآخر ولنا جميعا، هما لا يفترقان، لم تبت جدّتي في مكان ليس فيه جدّي... هو مغرم
بها، لا يردّ لها طلبا، وهي تُجلّه وتقدّم راحته على الجميع... كأنهما عروسان
جديدان…
هكذا عاشا على مدى
حياتهما الطويلة، عصفوران على فنن...
منهما نستمدّ الرأي
ونتعلّم الحياة ونستمرئ السعادة...
ومرضت جدّتي ولزمت
الفراش، وحزن جدّي حزنا شديدا، فقد شهيّته للحياة، أنفق بسخاء لمداواتها، لكنّ
المرض اللعين لم يرحم جدّي ولا جدّتي ولا توسّلاتنا ودعواتنا الصّادقة.
ماتت جدّتي وحضر
المعزّون، وامتلأ البيت بهم. وأطبق الحزن علينا، واتّجهت اهتماماتنا لجدّي الذي
انهار لفقدها، وبكاها بحرقة…
وتساءلنا في سرّنا
عمّا سيكون حاله بعدها، وتساءلنا في العلن، وعزمنا على الإحاطة به حتّى نخفّف
مصابه.
وفي أول اجتماع
للأسرة بعد الدفن، أعلن جدي:
ـــ قالوا لي... لا
تبق وحيدا.
أُغمِي على أمي وهي
كبرى بناته.
وانتحبت خالاتي.
وغادر أخوالي البيت
غاضبين.
وصحتُ فيه:
ـــ قالوا لك أم
قالت لك نفسك؟
وأقفر البيت.
***************************************************
شارك في تحكيم المسابقة 11 محكما من 8 دول عربية:
أ/ أبو إسماعيل
أعبو (المغرب) ـ أ/ أحمد جبار (العراق) ـ أ/ صفية يوسف (اليمن) ـ أ/ غريبي بوعلام
(الجزائر) ـ أ/ عبدالكريم بالوش (سوريا) ـ أ/ أحمد نصار (فلسطين) ـ أ/ سمر محمدعيد
(سوريا) ـ د/ حسن كاكي (العراق) ـ أ/ مصطفى الخطيب (الكويت) ـ د/مصطفى عطية (الكويت)
ـ ود/ نعيمة عبدالجواد (السعودية)
*****************************************************************