المركز
الثامن:
للأقدار دروب...
بقلم/ زهرة خصخوصي (تونس)
"خلف ذي التّلال
الجبليّة قرية منسيّة تناثرت بيوتُها قرميديّةُ الأسطحِ وهي ترتجف قرّا، والشّتاء
يُوغل في جَلْد الكون بسياط الصّقيع.
من مداخن أرهقها الزّمن،
امتدّت أنفاس الحطب المحترق نحو السّماء المكفهرّة تتضرّع لأوبة الشّمس إلى عرشها
المحموم.
وحدها ظلّت مدخنة بيت
الحطّاب بلا رائحة للأنفاس المتعبة. منذ سنين نسيت مريم أن تُلقمها شواء الغابة.
منذ تُوفّي والدها تاركا في عهدتها جدّتها العجوز، استعاضت عنها بالكانون الصّغير
تُلقمه بعض حُطيبات وتندسّ في الفراش وهو غير بعيد عنها يترنّم بشدو الجمر."
ندّت عن مريم تنهّدة حارقة
وهذه الأفكار تتراقص في ذهنها، وهي تستند إلى فأسها الصّغيرة، وقد أجهدتها شُجيرة
مُتيبّسة كانت قد شَقّت صدر الصّخور ذاتَ نضار، ففرّت نظراتها إلى ضلوع هذا الجبل
المتواريةِ خلفه قريتُها المقرورةُ.
من بعيد تناهى إلى سمعها
ثغاء شاة، فصَحَتْ من شرودها.
جالت نظراتُها بحثا عن
زوجها والشّويهات فلم تجد غير صدى ذاك الثّغاء يومئ إلى منحدر خلف الرّبوة
الصّخريّة التي تقف فوقها.
تأمّلت الشّجيرة المتيبّسة
قليلا كخبير ثمّ انهالت على خاصرتها اليمنى بفأسها تُخرس فيها آخر أنّات جذر تشبّث
برحم الأرض.
أمسكتها من جذعها وجذبتها
بكلّ ما أوتيت من بقايا صبر فأسلمتها نفسها. وضعتها على ظهر حمارها ونخزته تحثّه
على اللّحاق بزوجها والشّويهات.
تتالت السّاعات ومريم
تتقفّى أنينَ الجذور في الغصون المتيبّسة أنَّى قاد عليٌّ زوجُها شويهاته بحثا عن
بعض عشب نجا من جور صقيع "اللّيالي البِيض" في هذا الشّتاء.
ثمّ اكفهرّ وجه السّماء
فجأة وهبّ هواء قارسٌ. فقرّرا العودة إلى القرية.
ما فتئ الدّرب أمامهما
يمتدّ متعرّجا وعرًا والصّقيع يكاد ينخر جسميهما.
أخذ عليٌّ يحثّ الخطى
ويستحثّ قطيعه على الإسراع، سبع شويهات ظفر بها من عمّه منذ أشهر وهو يسلّمه مواشيه بعد سنوات من
رَعْيِها ليتزوّج.
ابتهج لمرأى الغيم المتزاحم فهمس لها: "أبشري
بخصيب درب..."
وإلى جواره ظلّت مريم تقفو
خطى حمارهما وهي تهمس لنفسها: "إن تهاطل الغيث فلن يشتري أحدٌ حُطيبة ولن
نحصل غدا على قوت".
باتت السّماء تئنّ تحت
أعدال الغيوم المثقلة بشائرَ، والجبل يشرئبّ بعنقه نحوها لتحنو عليه وتتدانى منه
بضروعها كوليد، فيرتضع نزّ الغيث طلّا نديّا.
لفحتهما ريح حملت في جرابها
وريقات ثلج ثمّ بدأت العاصفة تنثر ياسمين السّماء.
أمست الخطى تكابد الصّخور
الزّلقة، صخورا متراصّة كصفيح على صدر الجبل، وهي تتشرنق مقرورة، محمومة، تتشبّث
بنبضه كعاشقة تخشى التّيه آن النّوى.
"ما أعسر التّشبّث
بدرب من صفيح..." تمتم عليٌّ وهو يرى زوجته تجاهد الخطو. كست وجهه ابتسامة
ونظراته تتحسّس وجنتيها اللّتين باتتا أقحوانتين، وثغرَها المرتجفةَ شفتاه قرّا.
رفعت عينيها إليه. ثمّ عنه
رفعتهما نحو السّماء الضّاجّة بهطل
الياسمين، وقد خلّفت فيه حرائقَ وَلَهٍ.
لمريم عينان لا تفارق نضارةُ الرّبيع مَرْجَهما
الأخضر، فتظلّان تسحران عَليّا.
زوت بين حاجبيها وهي تردّد:
" لا أقسى على الغصون
الغضّة من همس الكَفَن..."
التفت إليها مذهولا:
_أترين في ذا الغيث النّاعم
موتا.؟
_
أراه موتا سريريّا حتّى يأذن ربيع بما يشاء، وثقيلٌ على الرّوح في الغصينات هذا
الكفنُ كلّ شتاء..
_ بل هو نقاء ونعومة ورواء،
وفي الرّحم الخصيب تنبض أهازيجُ العشق تحت حُجُبه البيضاء.
_أجل... تنبض حياة، وفي
الأجساد المقرورة تتوسّل من النّار قوتا تَذوي شموع النّجاة؛ الموت فينا منه يسري،
فلا اشتعال للحطب النّابض بالمُنى، ولا أهازيج تهلّل للعيد بين جدران بيت بيّاع
الحطب.
انهالت كلماتها على فؤاده
سهاما مسمومة انفتحت لها قِرَبُ عويل فيه يجاهد دربَ العمر لنسيانها.
"لا
أهازيج تهلّل للعيد بين جدران بيت بيّاع الحطب، وبيّاع الحطب أنا، زوجك الذي يحمل
شهادة الأستاذيّة مغموسة في أسن البطالة؛ أبيع الحطب يوما بعد يوم لمن به يدفعون
صقيع الدّهر عن جدران الرّوح، وقد صدقت فالرّوح في الحطب لا تباع."
تمتم عليّ ثمّ ساد بينهما صمت ثقيل.
مرّا بشجرة جرّدها الخريف
من وريقاتها فبدت سوأتها وتجعّد لحاء غصونها خجلا ووجلا من دثار قد يطول انتظاره
ليستر همومها، والأفقُ ينذر بعاصفة قد يطول بها المقام.
دنت منها مريم على عجل،
تحسّست الغصون، تشمّمتها، تاقت إلى رائحة الموت فيها لتشدو للأجساد المرتجفة بأعذب
ألحان الدّفء.
تكسّرت نبال الكلمات على صدر
مُناها وعليّ يقول:" دعي الرّوح خالدة إلى فيء الحلم. ألا تسمعين أنين الغصون
الغضّة فرحا بآهات الوصال كلّما لامستها وريقات الثّلج الباردة.؟"
ردّدت: "الرّوح خالدة
إلى فيء الحلم؛ كم روحا في ذا الكون بفيء الحلم تستجير من رمضاء الواقع؟، وإنّنا
قد استجرنا منها بنار الوجع في أحلامنا يا عليّ."
تأرجحت نظراتها بين السّماء
المتدانية أضرعها من الجبل أكثر فأكثر وبين حُزَيْمَتَيْ الحطب ينوء بحملهما
الحمار.
تشظّت نظرات عليّ بين
خطواتها وشويهاته وكهف قريب، وهو ينتشي بحديث الرّوح الذي لم يدُرْ بينهما منذ
أيّام الجامعة...
رغم وهج الوجنتين لاحت له
أدخنة وجع روحها. تمتم: "لو جاد عليّ القدر بالوظيفة ما صرتُ راعيا. لو لم
يمت والدها ما كانت مريم لتنقطع عن الدّراسة؛ ما أنصفتنا دروبُ القدر يا ابنة
الحطّاب."
ندّت عنه تنهّدة أسرع
يواريها بقوله: "العاصفة تشتدّ يا مريم... علينا أن نحتمي بالكهف."
أسرعت الشّويهاتُ تلج الكهف
بينما دخله الحمار متهاديا كأنّما يدرك نفاسة ما يحمل.
في مدخل الكهف وقف الزّوجان
المثقلان بهموم حياة ما أنصفتهما بعد، يتأمّلان المكان خارجه...
رؤوس الجبال المتّكئ بعضها
على صدر بعض غزاها شيب كثيف...
وعند أقدامها يمتدّ واد
سحيق تعوي فيه الرّياح وتمسي فيه أوراق الثّلج دموعا تلثم صدره ثمّ يلعقها الأديم.
لفحهما هواء أشدّ برودة
ممّا كان يغازل وجهيهما.
طفقت العاصفة الثّلجيّة
تشتدّ؛ أويا إلى المكان الضّيّق الذي جادت به الشّويهات عليهما، ظلّ الحمار غير
بعيد عنهما لا يكفّ عن الحركة مفزعا الشّويهات ومريمَ.
أخذت العتمة تلفّ المكان؛ أسندت
مريم رأسها إلى صدر عليّ في استكانة لمجرى قدرها في حركة مفارقة لنبضها الضّاج بما
حدث وما يحدث.. ثمّ سحبهما السّكون والدّفء إلى حضن غفوة.
بدت حركة الحمار أشدّ
تبلبلا.
تسارعت أنفاسه حتّى باتت
كَلِهاث.
هَدْهَد عليّ مريمَ يوقظها.
تمتم: "هناك خطب ما..."
ارتجفت وهي تتفحّص المكان المعتم بفزع.
همست: "لنوقد نارا..."
أخذ عليّ يبحث في جيوب معطفه عن علبة الكبريت
والحمار لا يكفّ عن ضرب الأديم بحوافره وأنفاسُه باتت نشيجا...
ما كادت يدُ عليّ تمسك بعلبة الكبريت حتّى ضجّ
المكان بالشّخير والنّهيق...
ارتمت مريم في حضن عليّ.
ارتمت الشّويهات في صدر الجبل.
على الحمار ارتمى ضبع جائع.
تكسّرت سيقان الأحلام الهشّة بين أنياب الضّبع
الجائع.
لاذ عليّ ببعض آيات تذود عن حياته وزوجته. ولاذت
مريم بنهر دموع فيه تغرق.
بالشّويهات الستّة المرعوبة لاذت سابعة لتضع ثلاث
توائم تحت زخّات أنفاس الحمار الأخيرة.
واللّيل في جوف الجبل ما فتئ يزداد عتمة.
والجبل الصّلد يرتضع مزن السّماء في صمت.