مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المركز الثامن مكرر: راعية الأغنام بقلم/ فوزية عرفات (لبنانية تقيم في الكويت)

المركز الثامن مكرر:
راعية الأغنام
بقلم/ فوزية عرفات (لبنانية تقيم في الكويت)
ـ هيا استيقظي أيتها الكسولة.
ـ دقيقة واحدة وأنهض يا أمي.
ـ (تركلني بقدمها) هيا انهضي لقد استيقظت الأغنام منذ الفجر وأنت لا تزالين في فراشك!
ـ لكني لست غنمة يا أمي.
ـ ليتك كنت غنمة لكنت استفدت من حليبك ولحمك وصوفك.
ـ (تركلني مجددا) هيا انهضي!
أخبئ رأسي تحت الغطاء وأحلم بعينين منفتحتين:
ـ ليتني كنت غنمة لوجدت من يهتم بي.
أقرر أن أنهي حلمي على الفور خوفا من عصا أمي، أنهض سريعا، وقلبي لا يزال متمددا على فراشي الدافئ، أرتدي ملابس العمل، أخرج إلى الزريبة الكائنة خلف بيتنا، أفتح الباب، يخرج القطيع الجائع وأمشي خلفه مطأطئة رأسي.
أكثر ما كانت تثير غضبي، هي هذه الدقائق الخمس التي تسبق وصول القطيع إلى المرعى، أحس أن كل من يسكنون الحي يتلصصون علي من خلف الشبابيك، تدوي أصوات سخريتهم في رأسي ويهبط رنين ضحكاتهم في قلبي كالسهام.
كان المصور نبيل أكثر من أمقت في القرية، أكره عطلة نهاية الأسبوع لأنه يعود إلى القرية مع عائلته، هو الوحيد الذي يستيقظ باكرا، لماذا لا ينام كالآخرين ويريحني من هذا الإحراج! ولماذا لا ينظر إليّ ويهزأ بي كالآخرين! 
كان سكوته يغيظني أكثر، لم أره يوما ينظر إليّ، ولم يغريه يوما صوت الأجراس المعلقة برقاب الأغنام التي أرعاها، كنت أكرهه أكثر لأني أحس بشفقته علي، فالسخرية  أرحم بكثير من نظرات الشفقة التي يمتنع عن قَذْفِي بها.
كان رفاقي في المدرسة يسخرون مني باستمرار، اقترن لقب راعية المواشي بي منذ سنواتي الأولى في المدرسة.
كان لي أخ واحد يعمل في العاصمة في حدادة السيارات، كان ضخم القلب والقالب، كنت أخافه كثيرا، ورث عن أمي الفظاظة والقسوة، كان يضربني كثيرا لأنه أراد أن يربيني تربية صالحة، كانت عصاه هي الدروس التي أتلقاها منه، ولا يختلف نوع العقاب مهما كان نوع الخطأ الذي ارتكبته، كنت أصرخ ألما عندما أتعرض لعقابه العنيف لكن عبثا أفعل، فلا أحد سيسمعني مهما بكيت ولا أحد سيسعفني مهما ذرفت دمعا مع أن بيت جارنا ( أبي نبيل ) ملاصق لبيتنا.
كنت ذات صباح وكعادتي أسير خلف قطيعي كشبح أسود، حين لمحت ابن الجيران المصور ( نبيل ) يلتقط لي صورا كثيرة، تجاوزته بالمسير وعندما صمت  صوت جهاز التصوير لففت رأسي إلى الخلف لأتأكد من رحيله، لكنه كان لا يزال هناك واقفا في مكانه كتمثال يحتضن كاميراته بين يديه ويرمقني بنظرات غريبة أراها لأول مرة، نظرت في عينيه نظرات حقد تماما كتلك التي أهزم بها زينة الخبيثة في المدرسة،  لكنه لم يخف مني كما تفعل هي، لم يهرب ولم يتزحزح من مكانه، حاولت قذف كميات أكبر من الحقد في نظراتي لكنه ظل صامدا، لم يكترث لحقدي ابتسم لي وقال أنت جميلة جدا، وولى هاربا.
- أنا أعلم أنني جميلة أيها الأحمق ( صرخت بوجهه بشراسة ).
ذات صباح وبينما أنا جالسة ببؤس في باحة المدرسة، علا ضجيج الفتيات والصبية فجأة، كانوا يتجمهرون حول زينة  التي كانت تحمل بيدها شيئا لم استطع تمييزه، ركض ( حسن ) في اتجاهي وهو يصرخ: رحيل رحيل، إن صورتك وضعت في الجريدة وقد فاز المصور الذي التقطها بجائزة أفضل صورة لهذا العام، كنت لا أزال منهمكة في محاولة فهم ما يقوله ( أبو أسنان )  كما اعتدنا ان نلقبه عندما صفعتني زينة بالجريدة على وجهي، حملت الجريدة بين يداي وكانت صورتي تغطي الصفحة الأخيرة بأكملها مع عنوان كتب بخط أسود عريض، لقطة راعية الغنم للمصور نبيل تفوز بجائزة أجمل صورة لهذا العام.
فكرت على الفور بردة فعل أمي عندما تعرف بالأمر، وعندما تخيلت شكل خيزرانها وهي تهبط على جسدي من كل حدب وصوب لففت الجريدة وخبأتها في جيب مريولي.
رِن الجرس معلنا انتهاء الفرصة، وقفنا في الطابور نتهيأ للدخول إلى الصفوف، كنت أقف في أول الطابور لأَنِّني الأقصر قامة بين رفاقي، أدرت راسي لأقرأ وجوه رفاقي بعد ما شاهدوه، فرأيت كل وجوههم مصفرة، تلاشت الحمرة من وجنتي زينة، وانقبضت شفتي توأمها رباب، أدقق في وجه مازن فيشيح بعينيه بعيدا عني، حتى سامر اللئيم لم يمد لي لسانه هذه المرة بل ابتسم لي بملء شفتيه ابتسامة أظهرت السوس الذي قضى على واجهة أسنانه الأمامية.
عندما رِن جرس الحصة الأخيرة، خرجت من الصف مسرعة على غير عادتي، إنها المرة الأولى التي أختبر بها تدافع التلامذة للعودة إلى البيت، كان إحساسا جميلا، كلهم مسرعون إلى بيوتهم حيث دفء العائلة واللقمة الطيبة، لكنني لم أكن أدافع التلاميذ لنفس السبب، أردت الخروج بسرعة لأعود  إلى البيت وأقطع على الأشرار محاولتهم الوشي بي عند أمي.
سبقني لهاثي إلى البيت، ونجح أحدهم في الوصول قبلي، تبا له إنه المصور نبيل، ماذا يفعل هنا، ومن هذه السيدة التي تجلس قرب أمي، خشيت الدخول  خوفا من خيزران أمي وظللت واقفة قرب الباب أختلس السمع من خلال فتحات نافذته المكسورة، كان الصوت بعيدا ولم أستطع تمييز كلمة واحدة مما يقولونه.
تنبهت أمي لوجودي خلف الباب، كاد قلبي يتوقف عندما  فتحت الباب فجأة وضبطتني في وضعية التنصت، سحبتني من طرف مريولي وأدخلتني حيث تجلس السيدة والمصور.
تتالت الأحداث بعد ذلك اللقاء الرباعي بسرعة فائقة، وكانت نتيجة الاجتماع صفقة مربحة جدا، حصلت أمي على مبلغ محترم من المال، واختفت جميع العصي من بيتنا خوفا على مظهري الذي يجب ان يحافظ على نضارته لأنه أصبح باب رزقنا، لم تتخل أمي عن أغنامها، لكنها تخلت عني كراعية لها، وأصبحت أنا نجمة أغلفة أصابع الشوكولاتة اللذيذة.
كم أشفقت على رفاقي الذين أصبحوا مضطرين لرؤية وجهي ونظراتي الحقودة  وشعري الأشقر كلما اشتاقت ألسنتهم  لحلاوة أصابع الشوكولاتة المغطاة بالكراميل.
الغريب في الأمر أنني وفي كل جلسة تصوير يصحبني إليها نبيل، يطلب مني بذل كل جهدي لأضخ في عيناي كميات كبيرة من الحقد، وعندما كبرت بعض الشيء وكبر عقلي قليلا سألته:
ـ كيف تكون الشوكولاتة لذيذة عندما نغلفها بالحقد؟
ـ فرد بفصاحة مبطنة:
 صوت بكائك أسقمني
يا طفلة مقتولة بحقد من كبروا
حقدك  في العيون ألمسه
والقلب لُب نخيل بين الجذوع يستتر
فما لي والعيون الحاقدة إن كان
القلب هلالا يحجب نوره الخفرُ
منذ ذلك اليوم قررت أن أكبر، بل أن أكبر كثيرا، صرت أكبر في اليوم الواحد سنة وأكثر.

 قبل عشرون عاما كانت أحلامي صغيرة جدا اقتصرت على أم عطوف ووجبة لذيذة وسرير بملاءات لا تفوح منها رائحة الأغنام، أما الآن وقد كبرت فقد كبرت معي أحلامي، لم يعد أخي يعني لي وبدل ان يربيني بعصاه  صرت أربيه بظرف ممتلئ بالنقود أدسه في جيبه على راس كل شهر، توسلت إلى أمي أن تنتقل للعيش معي في العاصمة فلم تقبل، فضلت رعاية الأغنام على رعايتي، ما زلت في نظر مدير أعمالي نبيل طفلة وما زال في قلبي حبيب القلب.