المركز
الرابع:
خريف الحبر على الورق
بقلم/ عوض سعود عوض (سوريا)
قالت له: أنا امرأة من تراب ومصيري إلى التراب.
أجابها : ماذا وضع الخالق فيك و حول ترابك إلى تبر، والتبر إلى امرأة من
عبير.
-1-
ينتظر مصطفى داخل المشفى الميداني، ليتلو للطبيب تفاصيل أمكنة أضاعت
ساكنيها، و سكان أضاعوا بيوتهم و سكنهم بعد أن تحول إلى ركام، و عن مخاض زوجته
نرجس، التي لم تنه شهرها السابع، تصرخ و هي تعانق آلاماً تشبه آلام الولادة. تتنفس
عتمة المكان التي غدت جزءاً من حياتها و حياته. يهدهدان البرعم ليغدو زهرة و ثمرة،
ليتجاوزا الجراح و صمت العصافير عن التغريد، و حتى لا يعيدا أسوأ ما في التاريخ،
فوراء ما حدث طامة. الأمواج تتراقص على وتر حياتهما، و تتلاعب بأفكارهما مستلهمة
من ضباب الأفكار، و تنكيس الهامات انتصاراتها. ينتظر و الآمال بانقشاع الغيوم،
لتبدو القمم بهالتها و عظمتها و تاريخها.
-2-
في معرض الكتاب التقى بنرجس، طافا عدداً من الأجنحة، و اشتريا حاجاتهما من
الكتب المعروضة، وفي نهاية طوافهما أهداها كتاب " النزعات المادية في الفلسفة
العربية الإسلامية " للمفكر حسين مروة. نظرتْ إليه و قالت: (يا ظالم ألف و ثمنمئة
صفحة أليست كثيرة على طالبة لم تتخرج بعد من الجامعة؟)
- ما أحوجنا إلى مثل هذه الكتب لنرى التاريخ بمنظار لم نتعوده، أنصحكِ
بقراءته لتشكلي نواة ثقافة فلسفية، فالفكر الفلسفي كما يقول المؤلف ينزع إلى نشدان
الحقيقة، التي يكون منطق العقل هو طريق الوصول إليها دون المصادر الغيبية.
تبتسم فيشع نور شفتيها زنابق جذلى ترتاح على ضفافهما، يراقب مسير الشموس
التي تنكسف، و تأخذ مسار طلتها. أوصلها إلى بيتها فأحسَّ أن النشوة سرت داخله،
لحظة وافقت أن يلتقيا، و بحكم الشعور الصادق، رأى أن اللقاء الأول ربما هو اللقاء
الذي يعطي الانطباع الأخير. غرد كطائر يحاول أن يرسم حدود طيرانه، في وقت هربتْ
حروفه من شفتيه، و هو يحدق بتفاصيل جسدها الذي أشعل الأفراح، و حول رماد الأحزان
إلى عرس.
تراكمت شهور المعرفة و الصداقة التي منحت مصطفى فرصة معرفة نرجس و خطوبتها،
بعد أن وصلت العلاقة حداً يسمح بطلب يدها. فقد ذهبا مشاوير عدة، و لم يتركا
متنزهاً قريباً من العاصمة إلا و صافحاه، و لا مطعماً هاماً إلا و تناولا ما لذ من
وجباته. تبادلا الغزل و رسائل تكفي لتأليف ديوان شعر، لم تبخل عليه فقد منحته
إشراقة ثغرها. من لحظتها لا يريد لابتسامتها أن تغيب. خرجا في الفصول كافة، تحت مطر وحدتهما قطراته، و
في صيف ردت ذوائبها الحر. امتلأ قلبه بحبها، و لم يعد يتسع لأي امرأة غيرها، يهفو
للإسراع بالزواج، ما يؤجله عدم قدرتهما على شراء عش يأويهما، بانتظار الحصول على
قرض.
-3-
ابتسمت الأيام لها فظنت أنها تحلم، تعيش أحلى لحظاتها، عندما فاجأها و
قادها إلى شقة مستأجرة على أطراف مدينة دمشق، لتعطي رأيها بتأثيثها حسب ذوقها،
يتبادلان الأفكار حول مكاني الكنبايات و المكتبة اللذين سيزينان الصالون، أما ما
يجب شراؤه لغرفة النوم فمن اختصاصها. يراقب ردة فعلها، و انشراح العسل في عينيها.
رأى الصباح و الياسمين و المطر الذي يغسل عفن الماضي و يسقي جسدها ليحيله إلى ملكة
للخصب و الجمال. قالت: سنرتب حياتنا كما نرتب الكتب في المكتبة.
تتراقص الطبيعة في عينيها، و يتدلى شعرها بدلال و كسل إلى كتفيها. بحركة من
يده يرسم تخومها، يتخيل ما ستؤول إليه الشقة، التي ستغدو رائعة ليس فقط
بمحتوياتها، بل بهما و بتغريد العصافير على شرفتها.
-4-
الزمن يدفن المدن والبلدات المستباحة، فلم تعد نرجس قادرة على إعادة حياتها
كما كانت. الحرب ورطت التاريخ و الإنسان، و لا أحد يخجل من أفعاله. الاشتباكات
أجبرتهما على الابتعاد عن بيتهما، راقبا القصف من السهول القريبة ثم عادا إليه
فوجداه مدمراً. بعد جهد يوم كامل للمنقذين، استطاعا أن يدخلا إلى شقتهما، شاهدا
سقفاً قد هوى؛ لا تسنده سوى عضادتين في غرفة النوم، سمحت لهما بالانحناء و العبور
و المعاينة.
احترقت المكتبة، و احترق معها كتاب " النزعات المادية في الفلسفة
العربية الإسلامية" و لم يعثرا و لو على ورقة منه. واصلا البحث عن ذاتهما
داخل أكوام المنزل. دموع خرساء لا تذرفها العين، بل تستقر في القلب. خزانتها بلا
محتويات و بلا خزانة، وصلت يدها إلى ظرف الرسائل الذي غدا فحمة، نثرته بأرض
الغرفة. كان بودها أن تستعيد عبق ماضيها، بحثت عن فستان زواجها، فلم تجد منه سوى
السحاب النحاسي، تناولته و هي تستعيد لحظة زفافها، و القبلة التي أشعلت الحمرة في
خدها، و هو يقول لها: مبروك.
ذكريات أبت أن تفارقها، وواقع يلتهم أعصابها، وها هي ذي تدلق مستقبلها على
أرضية غرفتها، فيحترق كما احترق بيتها.
-5-
الإنسان لا يحيا بلا بيت، بلا مكان يأويه. المكان ليس جدراناً فقط، بل هو
الوطن، الروح التي لا ترتوي بعيداً عن الجسد، خسارتهما كبيرة ومريرة، أين البيت، و
أين الأثاث؟ و من يسدد أقساط القرض العقاري؟
تشاجرت مع المنقذين الذين يخشون من هبوط مفاجئ لسقف غير متوازن. تستعيد
معالم الشقة، تتأمل ما تبقى من غرفة نومها، التي أودعت فيها مستقبلها و حياتها مع
من أظهر لها من الحبِّ، ما لا وجود له حتى في الخيال. تراكمت الثلوج على صدرها، و
تبلل الغيم من نرجسها، أما السماء فذرفت مواويل الغضب. نامت بلدتها، و غفت أحلامها
بعيداً عن بيتها، الذي تأملت أن تربي فيه أطفالها و تطعمهم من نبع حنانها و رقتها
و أنوثتها. عناقيد غضبها استقرت في جوفها. صاحت من آلام بطنها. عيناها ذابلتان
دامعتان، تصرخ و قد أمسكت طرف ثوبها، و باليد الأخرى قبضة تراب، تغلبها الدموع و
تجري على خديها، أسندت ظهرها على جذع شجرة، و أخذت تضرب بيدها على فخذها، و هي تكز
على أسنانها، وضعت طرف منديلها في فمها، أحست أن شيئاً ما قد دفق. حملها زوجها قبل
أن يغمى عليها إلى أقرب سيارة بعيداً عن مكانهما باتجاه المشفى الميداني.
26- 1- 2015