المركز
السابع:
وقائع
محاكمة الكاتب بيك
بقلم/ صلاح
العربي (مصر)
حين فتحت عيني
في الصباح، كنت كالذي استيقظ من حلم جميل إلى واقع مرعب، لم أكن شهدت ما يؤرقني
بعد، ولكني منذ أوتي بي إلى هذا المكان الرطب، قرب بحيرة معبد آمون العتيق، وعلى
شفتي هذه الأسئلة، التي تكاد تفتك بذهني:
ـ ترى ماذا
سيفعلون بي؟ أأحاكم مثل كهنة آتون الذين قتلوا جميعاً، أم أي مصير أساق إليه؟ وما
مصير إخناتون العظيم؟
كان الضوء
يتسلل، من خلال نافذة صغيرة في الباب الخشبي الضخم، فأخرجت من تحت ردائي رسالة،
كان قد بعث بها إخناتون إليَّ، حين كنت هارباً من وجه كهنة آمون وفرعونهم الجديد،
الذي خان ولي نعمته، وانقلب عليه، وسجنه في قصره الملكي، وترك السلطة للكهنة؛
فشرعوا يحاكمون كلَّ مَنْ حارب فسادهم؛ وآمن بالتوحيد على يد إخناتون، أخرجت
الرسالة وبدأت أقرأ فيها:
«أيها الفنان،
الثائر، العبقري، الجريء. أعرف أنني دفعتك في ذلك الطريق الأصيل الصعب، لأنني جربت
معدنك الطيب القوي، وما كنت تجرؤ على أن تتهور وتطيع، فما أكثر الذين يعرفون
الصواب ويتجنبونه! لولا إيمانك العميق بأن الحقيقة أفضل وأكثر جمالاً…».
لم أكمل الرسالة،
حين سمعت ـ ككل بغتة ـ وقع أقدام تقاربني، فيما هي تخبط بالباب دسست الرسالة، يا
لوحشتي، ما الذي سيهل عليَّ مع مجيئهم، أشم رائحة الدم، أتلمس فحيح الدسائس، أتقرى
برودة المؤامرات، هاهم قد فتحوا الباب الضخم، وبدوا في ملابسهم البيضاء وأجسادهم
الضخمة، ورؤوسهم الحليقة، التي تشبه الشمام الضخم، حيث يحلقونها بالموسي بصفة
مستمرة، كانوا ثلاثة كهنة، ومعهم حارسان مدججان بالأسلحة، بعد أن دخلوا من الباب
كانوا متقززين جداً، من رائحة الغرفة العفنة، ثم هتف أحدهم، وكان يدعى أمنوفيس،
ويشغل منصب خزائن آمون:
ـ انهض أيها التعس!
ثم ركلني برجله
ركلة قاسية جداً، وأشار إلى الحراس أن يسحبوني.
أخذت أتظاهر
بالصلابة، وحملت على رجلي بالكاد، وكانت لا تزال آثار الحبال المصنوعة من الليف
الشائك، والتي قيدوني بها البارحة ـ حين تم القبض عليَّ ـ واضحة على ذراعي ورجلي،
ثم مشيت بتباطؤ معهم إلى أن وصلنا قاعة المحاكمة، حيث توضع ريشة ماعت إله العدل
والحكمة، والتي توزن بها أعمال الإنسان، فإذا ثقلت الريشة أو تعادلت مع وزنه؛ كان
بريئاً من التهم المنسوبة إليه، أما إذا كان وزنه أثقل من الريشة؛ فإنه يكون
مذنباً يستحق العقاب!
جلس الكهنة
الثلاثة على أريكة القضاة، في الغرفة المتسعة الأرجاء، المملوءة بالأعمدة
والبرديات المقدسة، في المنتصف جلس الكاهن الأعظم كاي آمون، والملقب براعي آمون في
مصر العليا والسفلى، وعن يمينه جلس الكاهن أمنوفيس راعي خزائن آمون العظيمة، وعلى
يساره كان سمنك آمون، خازن البرديات والكتب المقدسة بالمعبد، حيث لم يكن يحظى بأي
لقب كهنوتي مقدس؛ ولذلك كان ينظر للكهنة الآخرين نظرة حقد، لا يحاول أن يبديه بين
معسول كلامه، جلس يدون كل كلمة تدور في المحاكمة، سواء خرجت هذه الكلمة من الكهنة
أو من الشخص المحاكم، ثم بعد ذلك كان عليه أن يعيد تدوينها في السجل المقدس،
المخصص للمحاكمات في المعبد، وكنت أنا أقف بعد أن قيدني الحراس بالحبال الليفية
الشائكة مرة أخرى.
أخيراً، وبعد
طول انتظار وصمت، بدأت وقائع المحاكمة حين سألني الكاهن الأعظم كاي آمون:
ـ أنت بيك
الكاتب؟
كنت أرتجف
وأتصبب عرقاً، ولكنني لا أدري، ما الذي جعل صورة إخناتون تقفز إلى مخيلتي في هذه
اللحظة بالذات، ذلك الملك المعتل الصحة، المشوه الخلقة، ومع ذلك كنت تراه فتشعر في
تقاطيعه بمنتهى الارتياح، مع الشعور بأسمى معاني النبل والشجاعة، بل والجمال أيضا،
وما زلت أراه خفيض الصوت، منغم العبارات، عبقري الأداء، قليل الكلمات، ولكنها مع
ذلك تنفذ كالسهام من قلبه إلى عقول مستمعيه أو محدثيه، عند ذلك سمعت صوتاً، يزجرني
وينهاني عن التمادي في الشرود:
ـ أجب يا أحمق؟
كان صوت الكاهن
أمنوفيس.
ـ نعم أنا بيك
الكاتب، والمثال الملكي.
ثم عاد الكاهن
الأعظم يسألني: أتحب أن تحاكم بقانون الكهنة أم بريشة ماعت؟
قبل أن أجيب
عليه، كان الكاهن أمنوفيس أسرع مني جواباً، حين قال:
ـ لا يا سيدي،
من هذا حتى يوزن بريشة الإله ماعت، دعنا نحاكمه بقانون الكهنة، وبعد أن نقيم عليه
الحجة، ثم أخذ يسألني ولا ينتظر مني رداً: ماذا تعرف من العلوم الكهنوتية
والكتابة؟ دعني أسألك في علم الأسرار المقدسة؛ هل تستطيع أن تخفينا وتظهرنا بجوار
البحيرة، «يقصد بذلك علم السحر؛ حيث كان يدرس في المعابد على أنه علم الأسرار
المقدسة».
وعندما لم أجبه؛
قال:
ـ سوف أسألك
سؤالاً أسهل في الحساب: كم يكون للدجاجة من كتاكيت في 165 سنة، إذا علمت أنها تبيض
في السنة 155 بيضة، يفقس منها 121 بيضة فقط؟
فصمت قليلا ثم
قلت له:
ـ يا سيدي، أنا
كاتب الملك، أكتب أشعاره ورسائله، وأصنع له التماثيل الملكية، ولم أحظ بتعليم وافر
مثلكم.
فرد عليَّ
متجهماً، وكانت تتناثر من فمه أشياء لا أدري كنهها:
ـ أنت زنديق
خارج عن الملة، رسمت الفرعون في حالات غريبة، رسمته كبشر مثل الرعاع، ولم ترسمه
كإله من الآلهة.
ـ تذكرت حين
ذلك؛ وجه إخناتون الملك الطيب، وهو يقول لي:
ـ «طلبت منك أن
تصور الناس كما هم، كما أوجدهم الإله، وجعلهم أشكالاً وألواناً مختلفة؛ فكيف
يستسيغ الفنان أن يغير ويبدل، ويبتعد بالباطل عن الحقيقة، الحقيقة أفضل وأكثر
جمالاً، ولكنها قاسية أحيانا…».
ـ تدخل الكاهن
الأعظم في سير المحاكمة، حين رأها تنحرف عن المحاكمة العادلة، وقال:
ـ يا بيك، بِمَ
تريد أن تحاكم؟
فقلت له: أفضل
ريشة الإله ماعت.
مال الكاهن
أمنوفيس، يهمس في أذن الكاهن الأعظم، إنهم سوف يقتلونني، ثم يقولون: إنني أثقل من
الريشة، وسوف يصدق الناس ذلك، فهل يعقل أن يكون إنسان أخف من ريشة، حتى لو كانت
ريشة الإله ماعت، أو يقولون: لقد أخذته الآلهة بعد أن غضبت عليه؛ من جراء فعلته
النكراء بالتعدي عليها وعلى كهنتها العظام، حين حاربهم إخناتون.
فرد الكاهن
الأعظم: ولكن ماذا نقول للتاريخ، للشعب، أليست وثائق المحاكمة تسجل، ثم تحفظ في
السجلات في خزائن المعبد المقدسة؟
بينما كان
الكاهن سمنك آمون، خازن البرديات والكتب المقدسة، يرنو إليهم بأذنيه؛ فيسمعهم
ويبتسم في نفسه، وهو يقول:
ـ إنهم أغبياء،
لا يدرون أن هذه الأوراق يصدر عنها دفء كبير، في ليالي الشتاء القارصة، عند حرقها
في فناء المعبد.