مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المركز الثالث: حوار مع الأموات بقلم/ هالة مهدي (تونس)

المركز الثالث:
حوار مع الأموات
بقلم/ هالة مهدي (تونس)
كان مكانه المفضّل هو المقبرة، نعم فالأموات قد انتهى دورهم في الحياة، ولم يعد هناك موجب لكذبهم وخداعهم ونفاقهم... لقد سئم الأحياء لهذه الصفات...
كان كل يوم بعد أن ينتهي من عمله يزور مقبرة المدينة، فكان في كل مرة يخاطب أحد الأموات ويسأله عن سبب وفاته وكيف كانت حياته قبل موته.
وقف عند قبر كُتب عليه: المرحوم صالح العايب... كان تاريخ الوفاة قد اندثر بفعل الزمن، جلس قبالة القبر وبدأ يحدّث الميّت:
كيف كانت وفاتك؟
أجاب صوت من داخل القبر:
كنت أسير بسيّارتي بسرعة جنونيّة بعد ليلة قضيتها في الخمارة لكي أنسى جنون زوجتي، فلم أفق من غفوتي إلا وأنا في هذا القبر المظلم.
سأله باستغراب: ولماذا كنت تهرب من زوجتك؟
أجاب وهو يقهقه:
يبدو أنك لست متزوّجا، ألا تعرف النساء وثرثرتهن وطلباتهن التي لا تنتهي؟
ردّ وقد بدأ يتراجع:
أنا متزوّج وزوجتي لا تشبه زوجتك في شيء فلا هي ثرثارة ولا هي من النساء اللاتي يطلبن الكثير...
قاطعه المرحوم بسخريّة:
لماذا تأتي إذن إلى المقبرة كلّ يوم مادام لك في الحياة من يحلو البقاء بجانبه؟
لم يعرف بم يجيب فتركه ومضى وصوت قهقهات المرحوم تكاد تنخر آذانه...
عاد إلى البيت وبدأ يسأل أسئلة لم يكن ليسألها لو لم يحادث ذاك المرحوم صادق:
لم لا تشبه زوجتي بقيّة النساء؟ لماذا لا تطلب مني ما تطلبه النساء؟ لم هي خانعة إلى هذا الحدّ؟ ألهذا الحدّ هي تحبّني، أم أنّها ضعيفة إلى الحدّ الذي يجعلها مسلوبة الإرادة عديمة الشخصيّة؟
ومنذ ذلك اليوم صار يستفزّ زوجته علّها تستبدل ضعفها قوّة وتتمرّد عليه، فكان كمن ينقش على الحجر، فلا هي كانت تغضب ولا هي كانت تردّ على كلامه... جنّ جنونه وقرّر أن يطلّقها...
عاد إلى المقبرة مرّة أخرى واختار في المرة الثانية أن يقف عند قبر امرأة ويسألها عن سبب وفاتها، كان اسمها عائشة لكن لقبها لم يكن واضحا ولا تاريخ وفاتها، سألها قائلا:
كيف كانت وفاتك؟
أجاب الصوت القادم من القبر:
عشت إلى أن وصلت إلى أرذل العمر، كنت في صحة جيّدة إلى أن وصلت إلى التسعين من عمري، وفي يوم بينما كنت عائدة من الهنشير الذي كنا نملكه سقطت على حجر فأصبت بنزيف حادّ ولم يتفطّن لي أحد لأن الزرع غطّى جثتي ولم يعثروا عليّ إلا بعد يوم من وفاتي فدفنوني وعادوا إلى حياتهم كأني لم يكن، فقد أعمت الثروة التي كنت أملكها بصيرتهم وأضحوا يتكالبون عليها وكأنهم كانوا متلهّفين لوفاتي.
حزن لسماع قصّة العجوز المتوفاة فقد ذكّرته بوالده الذي وصل إلى أرذل العمر فحمله أبناؤه وهو على رأسهم إلى دار المسنين واغتصبوا ثروته بعد أن أثبتوا عدم قدرته على التصرّف في الأموال بشهادة طبيّة مزوّرة.
لم يعد إلى منزله بعد ذلك الحوار فقد قرّر أمرا مهمّا، قرّر أن يجتمع بأخوته وأن يخرجوا والدهم من دار المسنين لكنهم رفضوا وتعلّل كل واحد منهم بعذر قبيح، فصمّم على أن يذهب إلى دار المسنين وحده علّه يكفّر عن ذنبه ويحمل والده للعيش معه في بيته خاصة بعد أن طلّق زوجته.
وصل إلى دار المسنين التي لم يزرها منذ أن ترك والده فيها منذ خمس سنوات... سأل عن والده الحاج عمر الصابر، لكنه فوجئ عندما لم يجد اسمه مدرجا ضمن قائمة المسنين، سأل مدير الدار فأجابه:
الحاج عمر الصابر لم يبق في هذه الدار أكثر من ليلة واحدة، فقد رغب أحد الأبناء البررة الفاعلين للخير أن يتكفّل به على نفقته لأنه كان محروما من الأب، لكن والدك للأسف لم يتحمّل أن يرعاه الغريب ويتنكّر له أبناؤه فمات بحسرته بعد ليلة واحدة من وصوله إلى منزل ذلك الابن البار...
صُدم لمعرفة كلّ تلك الحقائق، فأي ذنب قد اقترفوا وبأي وجه سيقابلون ربّهم بعد فعلتهم الشنيعة.
قرّر ألا يخبر أخوته لا خوفا على مشاعرهم بل عقابا لهم على ما اقترفوه، ربّما قد صحا ضميره هو ولو بعد فوات الأوان لكنّ أخوته بقوا على غيّهم وعلى ظلالهم.
لم يذهب إلى عمله بعد تلك الحادثة ولزم بيته أسبوعا كاملا... ثمّ قرّر العودة إلى دأبه اليوميّ: العمل صباحا والمقبرة مساء...
توجه إلى المقبرة التي اشتاق لرؤية أهلها، وقف أمام قبر كتب عليه: المرحوم عماد الباهي، تاريخ الوفاة 09/04/1938، سأل الميّت قائلا:
كيف وصلت إلى هنا؟
ردّ الصوت القادم من القبر وكان صوت طفل لم يتجاوز الثالثة من عمره:
لقد كنت مع والدي ذلك اليوم وقد رفعني عاليا وهو يصيح نموت نموت ويحيا الوطن، فأصابني الاحتلال برصاصة اخترقت صدري وأردتني قتيلا.
ارتعب لسماع صوت الطفل الشهيد وزاد احتقاره لنفسه وهو يقارن بين ذاك الطفل الذي مات واحتسِب من الشهداء وبين نفسه وهو الابن العاق الذي فرّط في والده ورمى به في دار المسنين فأي خزي وأي عار سيلحق به؟
أدار ظهره ورغب في العودة إلى البيت لكنّ أمرا ما جعله يقف عند قبر آخر، كان قبر والدته التي توفّيت منذ أن كان رضيعا، لم يكن يعلم عن أمه نجاة الشامخ شيئا، كان كل ما أخبره به أخوته أنها توفيت بجلطة في القلب، لكنه سألها وللمرّة الأولى:
كيف وصلت إلى هذا القبر يا أمي وكيف استطعت أن تتركيني وأنا ما زلت رضيعا؟
الأموات لا يكذبون، ينطقون الحقيقة بكلّ جرأة وثبات، فلم يعد هناك داع للكذب بعد موتهم، لم يخطر بباله أن يسألها ذلك السؤال رغم أنه كان يوميا يقف عند قبرها ليترحّم عليها.
أجابت الأم بصوت حزين:
لقد انتحرت يا بنيّ، لم أستطع أن أخدع والدك بعد أن ولدتك، فأنت لم تكن ابنه وأنا لم يكن باستطاعتي أن أعيش وأكتم هذا السرّ طيلة حياتي، فلجأت إلى الانتحار بأن شربت دواء كانت قد أعطتني إياه الطبيبة لإيقاف النزيف بعد ولادتك بكمية كبيرة، لم يشكّ أحد بي وظنّ الجميع أني أصبت بنوبة قلبية عاديّة داهمتني في فترة النفاس ودفنوني دون أن يعلموا بانتحاري...
صدم من هول ما سمع، لم يكن باستطاعته أن يسأل سؤالا آخر لأنّ الأموات يجيبون عن سؤالين لا غير، صار يدور في المقبرة كالمجنون، من تراه يكون أبي؟ منذ أسبوع فقط ذهبت لأكفّر عن ذنبي، إنها عدالة السماء، كيف لي أن أعرف والدي الآن وقد ذهبت من تعلم بالسرّ؟ أكيد أنّ هناك من يعلم...
عاد إلى منزله ذاهلا لا يستطيع التفكير
ماذا لو سأل ذاك الذي تكفّل بوالده عندما أخذه من دار المسنين، فالأكيد أنّه يعلم سرّا فلا يعقل أن يتكفّل أحد بأحد دون أن يكون عارفا ببعض أسراره...
انطلق مباشرة إلى منزل ذلك الشاب، التقى به عند مدخل منزله، دخل مباشرة في الموضوع قائلا:
من أين كنت تعلم بأننا أخذنا والدنا إلى دار المسنّين؟ لا تقل لي هي الصدفة؟
أجاب الشاب بكل صراحة ودون أن يحاول إخفاء الحقيقة: لقد وصّتني والدتي قبل أن تموت بأن أعتني به إن حصل له مكروه تكفيرا عن ذنب اقترفته تجاهه.
ومن تكون والدتك؟
نجاة الشامخ.
لم يصدّق ما سمع، يعني ذلك الشاب كان أخاه من أمّه، وذاك الشاب قد يكون أخاه من والده الحقيقيّ كذلك.
قال وقد أظلمت الدنيا في وجهه:
ومن يكون والدي فقد علمت للتوّ أن ذاك الذي رباني لم يكن والدي أكيد أنت تعرف كامل الحقيقة ما دمت تعلم بذنب والدتي...
نعم أعرفه، لقد عشت طيلة هذا الوقت وأنا أحمل السرّ وحدي إلى أن أثقل كاهلي، ولكن حتى وإن عرفت اسم والدك فلن تراه كذلك لأنه أيضا توفي في حادث مرور عندما كان يقود سيّارته بسرعة جنونية وهو سكران... اسمه صالح العايب.
شعر بدوار كبير ولم يستفق منه إلا عند سماع صوت أحدهم وهو يسأله:

كيف كانت وفاتك؟ وكيف كنت تعيش قبل أن تصل إلى هذا القبر المظلم؟.