مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

رائحة السمك بقلم: عبد المجيد بَطالي (المغرب)

رائحة السمك
بقلم: عبد المجيد بَطالي (المغرب)
       كان أنفه في المقدمة يتجول بكل حرية عن اليمين و عن الشمال، يتتبع في حركات هوائية داخلية مراكز الإرسال، إنه جهــاز استقبال للروائح بامتياز، و نقطة مركز دائرة الوجه، شهقات هواء قوية متتالية و مسترسلة...
       العينان بارزتان و محمرتان، تقاومان التعب و الإنهاك، كبوصلة تدوران يمنة و يسرة، تترصد انبعاث الرائحة، لم تعد المعدة تقوى على الصبر و التحمل...
       لا غرابة في ذلك، إنه لم يكن يملك غير هذا الجهاز القوي الذي يقوده نحو الهدف المنشود حيث تزداد المعدة هيجانا، بل و اشتياقا كلما اقترب من مصدر رائحة السمك المشهية...
       ها هي معالم مصدر الرائحة السمكية، بدأت تلوح على بعد خطوات معدودات، كلمح البصر أو هو أقرب، وسط زحــــام من العاملات و العمال، غطت رؤوسهم سحابة دخان قلي السمك، حيث امتدت أياديهم الملونة بطلاء "الدجين الأزرق" نحو "أبا البهجة" السّمّاك المشهور لدى عاملات و عمال الحي الصناعي المترامي الأطراف هناك...
      هناك وقف العم "سعيد" كعادته كل يوم، لكن لم يتوقف أنفه عن شرب الرائحة، كان ينظر بعينيه الجاحظتين إلى زبناء "أبا البهجة" و قد جلسوا على كراسي خشبية طويلة ذات اللون الترابي، الوجوه ارتدت لبوس السكينة و قد يمّمت نحو "أبا البهجة"؛ فمنهم من تسلم صحنه و نصيبه من السمك، و منهم من ينتظر، و قد سال لعابه من شدة ما به من جوع...
       كل هذا و العم "سعيد" واقف ينتظر نصيبا من السمك، يتفحص جوانب المكان...  تراءت له بعض القطط المختلفة الألوان و الأشكال و الأجسام، تدور من حول الجالسين لعلها تظفر بما يجود به الزبناء عليها، من قطعة خبز أو شيء من فتات السمك.
       تنهد من أعماق ممتلئة حتى النهاية بالأسى و قال في نفسه:    
       ـ آه مصير هذه القطط يشبه مصيري المحتوم...
       بقدمين حافيتين مشققتين بفعل عوارض الطبيعة... و السير على "الزفت" الساخن بحرارة الشمس المحرقة...
       كتمثال منحوت تسمر... و بعينين تكاد تنفلتان من مكانهما، أخذ ينظر في شره إلى الأسماك المقلية، بشفتين غليظتين، تمتم بكلام غير مفهوم، و اللعاب يجري على لحيته المكتظة التي لم تعرف المشط منذ بداية تاريخ هذه الحالة...    
       التفت إليه " ابا البهجة" قائلا:
       ــ مرحبا بالعم سعيد...
حرّك رأسه قليلا... و ابتسم في صمت مخنوق بالمرارة دون إظهار لأسنانه المصفرة المتباعدة و المتآكلة بعض الشيء...
       ــ تقدم "يا سعيد"، خذ هذا النصيب؟         
بيدين كبيرتين مجعدتين ومبلطتين بسواد قاتم يعود إلى تراكمات زمنية غابرة، و معاناة ضاربة في عمق التاريخ، احتضن الصحن بقوة، و أخذ سبيله نحو ظل الحائط المجاور هناك.
       ذهلتُ، ثم استغربتُ، و الناس في شغل من أمر بطونهم الجائعة، لم يلتفت منهم أحد إلى القطط الجائعة من حولهم، فآذانهم صمّت عن سماع المواء... قد أصابها ما أصاب الجياع من الناس و لسان حالها يقول:    
       ــ أليس لنا ما للعم سعيد من الحظ و النصيب؟     

       الْتفتُ فجأة أتذكر حال الرجل المسكين... وجدته قد افترش الثرى و الصحن السمكــي بين رجليه المبسوطتين على الأرض، و قد مد يده العطوف للقطط الجائعة التي تحلقت حوله تشاركه وجبته السمكية...