بقلم: عبد المجيد بَطالي (المغرب)
كان
أنفه في المقدمة يتجول بكل حرية عن اليمين و عن الشمال، يتتبع في حركات هوائية
داخلية مراكز الإرسال، إنه جهــاز استقبال للروائح بامتياز، و نقطة مركز دائرة
الوجه، شهقات هواء قوية متتالية و مسترسلة...
العينان بارزتان و محمرتان، تقاومان التعب و
الإنهاك، كبوصلة تدوران يمنة و يسرة، تترصد انبعاث الرائحة، لم تعد المعدة تقوى
على الصبر و التحمل...
لا غرابة في ذلك، إنه لم يكن يملك غير هذا
الجهاز القوي الذي يقوده نحو الهدف المنشود حيث تزداد المعدة هيجانا، بل و اشتياقا
كلما اقترب من مصدر رائحة السمك المشهية...
ها هي معالم مصدر الرائحة السمكية، بدأت تلوح على بعد خطوات معدودات، كلمح
البصر أو هو أقرب، وسط زحــــام من العاملات و العمال، غطت رؤوسهم سحابة دخان قلي
السمك، حيث امتدت أياديهم الملونة بطلاء "الدجين الأزرق" نحو "أبا
البهجة" السّمّاك المشهور لدى عاملات و عمال الحي الصناعي المترامي الأطراف
هناك...
هناك وقف العم "سعيد" كعادته كل
يوم، لكن لم يتوقف أنفه عن شرب الرائحة، كان ينظر بعينيه الجاحظتين إلى زبناء
"أبا البهجة" و قد جلسوا على كراسي خشبية طويلة ذات اللون الترابي،
الوجوه ارتدت لبوس السكينة و قد يمّمت نحو "أبا البهجة"؛ فمنهم من تسلم
صحنه و نصيبه من السمك، و منهم من ينتظر، و قد سال لعابه من شدة ما به من جوع...
كل هذا و العم "سعيد" واقف ينتظر
نصيبا من السمك، يتفحص جوانب المكان...
تراءت له بعض القطط المختلفة الألوان و الأشكال و الأجسام، تدور من حول
الجالسين لعلها تظفر بما يجود به الزبناء عليها، من قطعة خبز أو شيء من فتات
السمك.
تنهد من أعماق ممتلئة حتى النهاية
بالأسى و قال في نفسه:
ـ آه مصير هذه القطط يشبه مصيري المحتوم...
بقدمين حافيتين مشققتين بفعل عوارض
الطبيعة... و السير على "الزفت" الساخن بحرارة الشمس المحرقة...
كتمثال منحوت تسمر... و بعينين تكاد تنفلتان من مكانهما، أخذ ينظر في شره
إلى الأسماك المقلية، بشفتين غليظتين، تمتم بكلام غير مفهوم، و اللعاب يجري على
لحيته المكتظة التي لم تعرف المشط منذ بداية تاريخ هذه الحالة...
التفت إليه " ابا البهجة" قائلا:
ــ مرحبا بالعم سعيد...
حرّك رأسه قليلا... و ابتسم في صمت مخنوق بالمرارة دون إظهار لأسنانه
المصفرة المتباعدة و المتآكلة بعض الشيء...
ــ تقدم "يا سعيد"، خذ هذا
النصيب؟
بيدين كبيرتين مجعدتين ومبلطتين بسواد قاتم
يعود إلى تراكمات زمنية غابرة، و معاناة ضاربة في عمق التاريخ، احتضن الصحن بقوة،
و أخذ سبيله نحو ظل الحائط المجاور هناك.
ذهلتُ، ثم استغربتُ، و الناس في شغل من أمر بطونهم الجائعة، لم يلتفت منهم
أحد إلى القطط الجائعة من حولهم، فآذانهم صمّت عن سماع المواء... قد أصابها ما
أصاب الجياع من الناس و لسان حالها يقول:
ــ أليس لنا ما للعم سعيد من الحظ و النصيب؟
الْتفتُ فجأة أتذكر حال الرجل المسكين... وجدته قد افترش الثرى و الصحن
السمكــي بين رجليه المبسوطتين على الأرض، و قد مد يده العطوف للقطط الجائعة التي تحلقت حوله تشاركه وجبته السمكية...