حواس
بقلم: طارق
عثمان (مصر)
لكزني الألم
المتناثر في أعصابي كي أفيق من الغيبوبة، عيناي المتورمتان تتهجى الوجود متلعثمة
في ظلام مختنق، و تظللها رموش ملتصقة بدماء متخثرة انسابت من جرح عشوائي. مشلول في
صندوق خرساني أسبح بين اليقظة و الحلم ربما جرفني الوعي إلى صورة ما تفسر ما
أعانيه. استدرجتني أنفاسي المكدودة إلى بصيص الضوء المنساب من ثقب ضيق صنعته
بمهارة صدفة انهيار المبنى، حركت رأسي بصعوبه بالغة تجاه الثقب، تمددت نظراتي حتى
أمسكت عنوة بالصور المبتورة، ضباب من الدخان و النار و الغبار، أشلاء، ركام، أقدام
تعدو هنا و هناك؛ نائحات، كاميرات منتشية بالموت، آلات ضخمة تعبث بالركام و تثير
المزيد من الغبار؛ جفلت كالعادة من رؤية تمثال الزعيم بأصبعه الشهير الذي يشير
دائما إلى من ينظر إليه، تلك الإشارة المبهمة التي حيرت الناس، هل هي تهديد أم كما
ردد الساسة أنها إشارة البدء في العمل؟... غريب أن تنهار بيوت الميدان كلها، و يظل
أصبعه عالقا في الأثير؛ هل كانت القذائف تستهدف أصبعه و ضلت طريقها إلى البيوت
الآمنة؟!. ارتطمت بمسامعي أصوات متداخلة، استغاثات، مناداة على مفقودين، سرينة
إسعاف، أبواق، و...
سقط رأسي متعبا
تجاه اليسار حيث الظلام الخانق، و كف عقلي المنهك عن تحويل الصور المبتورة إلى
أحداث متوقعة. نفضت عباءة الذكريات، فتناثرت ثعابين الساسة تتلوى مهددة بعضها
البعض في وسائل الإعلام، و فحيح الرصاص و القنابل ينال من العديد من المدن، و أنا
أقاتل شعرا في مدونتي و أحشو اللغة برصاص الأبجدية، و أصوب في جسد الكذب و الفساد
و الزيف و... و يتابع جنازة الوطن مقهورين بأسماء مستعارة مثلي، سقطت آمالهم و
تكومت على الرصيف جثث تحتضر، و تفوح رائحة الخطر من الثواني، فتزكم مشاعرنا بالخوف
اللعين و... انتفضت أهدابي، الضوء يزداد و يقترب، بحثت عن لساني في فمي؛ تحرك
المزيد من الألم، لا يصدر فمي سوى آهات؛ حركت رأسي معاندا ضيق المكان حتى ارتطمت
نظراتي بالأقدام المقتربة، قلبي يدق كطبل إفريقي مجنون مع اقتراب الضوء الساطع من
الثقب، يبدو أنه كشاف قوي، انحسرت الأقدام... أقدام أنثوية و أقدام بزي عسكري؛
أشرعت أذناي لألتقاط الكلمات المتساقطة على صندوقي الخرساني بعد صمت مطبق:
المذيعة: ما هي
الجهود المبذولة من الحكومة لردع الفصائل المتناحرة؟
الرتبة
العسكرية: (سعال كبداية)... في الواقع لا تؤثر تلك الحالات الفردية فيما تبذله
الحكومة للحفاظ على أمان الناس... و لا يؤثر ذلك في ثورتنا المجيدة التي لا
تضاهيها أي تضحيات و...
أغلقت مسامعي عن
هذا الهراء؛ نحن نعاني و أنتم تحصدون كل شيء، ألا تعلمون ماذا أصبح حلم الناس؟،
لقد أصبحت الشيخوخة طموحاً!، الفقر يأكل الناس بينما القهر يجعل الخوف يطعمنا كسرة
خبز مغموسة بالصمت الذليل، أصبحت القنابل تضيء الليل كالبرق، و الرصاص يجري مزعورا
من ثورة أنفاسنا!. جحظت عيناي على الضوء المتباعد، و ظلال الأحذية يرسم موتي
المحقق، بينما صوتي مسحوق على لساني المتشقق، حتى حركاتي العصبية المرتطمة
بالجدران لا تصدر صوتا، امتصت عيناي ظلال حذاء عسكري عائدا مهرولا، تعالت دقات
قلبي حتى طغت على أنفاسي اللاهثة، لا؛ تساقطت أمطار البول على الثقب بغزارة، ثم
تباعد الحذاء منتشيا بالخلاص.
(
تمت )