بقلم: محمد عباس على داود (مصر)
طار صالح دائراً حول الدكتور عدة دورات،
الرجل يبدو متعجلاً، تحمل سيماه جداً مبالغاً فيه، كأن كل حركة منه مرسومة بدقة
متناهية ، و محددة دون زيادة أو نقصان ، أو هو همّ كبير يملأ روحه و يشعره أنه في سباق عارم؛ عليه
أن يشحذ كل ما لديه من همة للسبق فيه.
حدق صالح في وجهه، ملامحه تتغير ما بين انقباض و انبساط
بتقطيبة جبينه و العقدة التي تتوسط حاجبيه على شكل هرم مقلوب، يتساءل صالح عما حدا
به إلى جلب كل هذه الأجهزة معه، تفحصه جيداً محاولاً الوصول إلى غرضه مما يفعل؛
الرجل أشيب الشعر، باهت النظرات، محنى الظهر قليلاً، يحمل فوق أرنبة أنفه نظارة تطل من خلف زجاجها
الشفاف عينان صغيرتان شديدتا الهدوء، حوله شباب و شابات يبدو أنهم طلبة عنده ينادونه
دكتور كامل.
انتهى كامل من ضبط الأجهزة و تجهيز المجسات و
الحساسات اللازمة لها، بعدها أشار إلى الطلبة برفع الأغطية عن جسد صالح المسجى على سريره غائباً
عما حوله ليركب عليها المجسات و الحساسات لتقوم بمتابعة و قياس المتغيرات التي
ستطرأ عليه بعد قليل؛ تقدم أحدهم نحو الجسد الغارق في سكونه، ازدادت رجفة صالح في
مكانه أعلى السقف و هو يراه يتقدم من الجسد و يرفع الغطاء،
الغطاء أبيض ناصع يبدو مغسولاً باتقان، أو
هو جديد جيء به خصيصاً من أجل هذه الحالة منذ قليل. حدق صالح بعينين متسعتي
الأحداق و فكر مشوش فيما يجرى، جال
بخاطره ما حدث له منذ زمن لا يدرى كم مضى عليه، عندما حقنة طبيب التخدير بكمية من
المخدر نقلته من عالم إلى آخر فوراً، عالم وجد فيه مبتغاه، انتقل طائراً كسهم محدد
الهدف إلى حيث رأى نفقاً مظلماً يمتد أمام عينيه كأنه برزخ بين عالمين، أو هو ممر
فاصل بين كونين مختلفين، اندفع مخترقاً
مداه إلى حيث انبلجت أنوار شفافة رقراقة ناعمة لها أريج حان و يكاد يجزم أن لها
ملمس حريري لا مثيل له تغشي العين، فاذا بالإبصار ينطلق متأججاً و قد رفع عنه
حجابه ليرى مالم يره من قبل حاملاً بين جوانحه دهشة و فى قلبه فرحة لم يحلم بمثلها
من قبل و هنالك رأى عالما آخر من رياض حالمة و رياحين مسفرة و طيور تغريدها يملأ
الروح بهجة و رضا، المشكلة أنه ما زال إلى الآن مرتبطاً بهذا الجسد الغائر في
ماديته، المتهالك، الذى تفوح من ثناياه روائح أرض بور لا جدوى من محاولة إصلاحها
أو حتى الخوض فيها، ذلك الغلاف الأرضي الذي فرض على الروح كدثار يدثر كيانها كأنها
عورة يجب أن تغطى، أو ربما هى...؛ ها هو قد استطاع ان ينفصل و لو قليلاً عن هذا
الجسد و صار روحاً الآن روحاً شفافة رقيقة
نقية لكنها في عالم الماديات هذا لا تمتلك الظهور، ربما لهذا السبب خلق هذا الجسد
الفاني؛ ليكون رفيقها إلى حيث ميزة
الإنسان أنه مزيج من الفناء و الخلود، و الموت والحياة، و الفجور و التقوى، بطريقة
مقصود بها أن يظل الصراع دائراً في حومة الأرض لا ينقطع و لا يبور بين المادة و
الروح إلى أن يأتى الموت فيلقي بالجسد إلى التراب و يحرر الروح لتنطلق إلى حيث يجب
أن تكون، و مشكلته الآن أنه ما زال
مرتبطاً بجسده هذا الملقى كخرقة بالية بين أيدي جهلة لا يدركون ما خلف هذا السكون
الظاهري أمامهم.
حدق في الدكتور كامل من مكانه بأعلى الحجرة؛ أنت يادكتور، لماذا تصر
على تقييدى، أريد التحرر من هذا الجسد، لا أريد الرجوع، أتسمع؟
لم ينتبه له أحد.
عاد الدكتور يضبط أجهزته و العيون من حوله تحملق بانبهار و هى ترصد و
تستمع إلى ملاحظات الدكتور الذى جمعهم اليوم أمام هذه الحالة بالذات لطول المدة
التي قضاها صاحبها في الغيبوبة و لكي يكون الشرح عملياً لكيفية مواجهة مثل هذه
الحالات الناتجة عن زيادة جرعة المخدر أيا كان نوعه و التصرف الواجب في هذه
الحالات للإسراع بإنقاذ المريض المشرف على الموت، مؤكداً أن الغيبوبة ما هى الا
صورة أخرى من صور الموت المتعددة؛ فهناك الموت الحقيقي الذي تتوقف فيه الأجهزة
الحيوية تماما، و تفارق فيه الروح الجسد و هناك النوم الذي يسمى ـ كما تعرفون ـ
الموتة الصغرى، ثم تأتي الغيبوبة لتكون نوعاً آخر للموت تتوقف نهايته على قدرة
الطب و مدى كفاءته في إنقاذ حياة المريض، ثم أشار بيده أن اقتربوا؛ فزع صالح في
عليائه، عاد يدور قلقاً في مكانه المحصور بين زوايا السقف الأربعة ( أنت لا تدرى
يادكتور ماذا جرى عندما علمت زوجتي بما حدث ؛انشقت من البكاء و العويل أمام العين
الراصدة، و فى البيت وقفت أمام المرآة تهنئ نفسها على نجاتها مني، اتعرف أنني...)
أشار الدكتور إلى الجسد المسجى في سكونه الممتد أمامه:
-
هناك حالات طالت فيها الغيبوبة إلى سنوات، لكننا اليوم بصدد دواء جديد
محفز للمخ لاستعادة نشاطه و قدرته على قيادة أعضاء الجسد و إعادتها إلى النشاط و
اليقظة. إذا استطعنا تحفيز المخ نكون قد نجحنا.
اضطرب صالح أكثر
( انتظر يادكتور، سأقول لك شيئاً لتقتنع بما أريد )
همس أحد الطلبة:
-
ما هو هذا الدواء الجديد يادكتور؟
-
هو إنزيمات يفرزها الجسد لتحافظ على الوعى و الإدراك و حسن أداء
الأعضاء لواجباتها، الحاكم و المسيطر على هذا هو المخ، بمساعدة هذه الإنزيمات
يواصل عمله.
و عاد كامل الذي
اشتهر عنه الدقة و النظام في عمله منذ كان معيداً صغيراً في الكلية إلى أن صار
رئيس القسم الذي يعمل فيه، عاد يدور حول أجهزته يحدق في ترمومتر متابعاً مؤشره و
درجة الحرارة المقابلة، ثم مستديراً عنه إلى بارومتر لقياس الضغط، متربصاً
بالدرجات المسجلة على شاشته، ثم يغادره إلى آخر فآخر، حتى إذا استوثق من الأمر بدأ
عن طريق حقنة شفافة محملة بالدواء الجديد في حقن الجسد رويداً رويدا، و عيناه
نظراتها مترددة بانتظام بين قراءات أجهزته، و جسد المريض و بخاصة قسماته و سكون
أحداقه فوق عينيه رامياً بمقلتيه بين حين و آخر الى سطح ساعته، مترقباً حركة
عقاربها في صبر مشوب بأمل و هو محني الجذع على جسد المريض قريباً بمسافة كافية من
وجهه الساكن خلف دياجير غيبوبته منتظراً أن يرى بادرة لقبول دواءه الجديد، أي
بادرة مثل رجفة جفن، أو تحرك عضلة في الوجه، أو شيئاً من هذا، لحظات قصيرة بعمر الزمن طويلة بعمر الترقب و
الانتظار مرت، قبل أن يعتدل كامل من انحناءة الترقب و الملاحظه، متسع العينين زافراً من فمه أعاصير فشل يغشي روحه
المتوثبة أمام الجسد السادر فى تحديه له بسكونه و غيبوبته.
-
ما الأمر يادكتور؟
لم ينتبه له في
توتره الواضح و هو يدور بعينيه على أجهزته متسائلاً عن الخطأ إذا كان هناك خطأ ما؛
لقد جرب الدواء الجديد مراراً على حيوانات التجارب، و كلها نجحت و بتفوق، و الآن
يرفض هذا الجسد الساكن مساعدته ليعلن نجاح دواءه، يرفض المريض و باصرار واضح قبول
الدواء، أو حتى إعلان تأثره به؛ القراءات تدل أن الدواء سرى، و أن هناك تغيرات
طفيفة فيها، لكن لا حركة هناك و لا دلالة حتى و لو كانت طفيفة تدل على حياة تولد من جديد من رحم هذه الغيبوبة.
حالة غريبة لا
يقبلها عقله العلمي و تجاربه الطويلة، و ليس هناك الا احتمال واحد لها أن المريض
يصر على البقاء في غيبوبته، و يرفض العودة للحياة، و أن هذا الجسد الساكن أمامه،
الذي لايملك من أمره شيئاً و لا يستطيع الحركة، له إرادة و إرادة قوية يفرضها على
الدواء، و عليه أيضا كطبيب، برغم الدواء الجديد الذي كان يفترض فيه أن يكون سلاحاً
قوياً يتحدى إرادته مهما كانت، و يفرض عليه العودة للحياة فرضاً.
نجاح الدواء لا
شك فيه و حيوانات التجارب شاهدة؛ فقد حقنها بالمخدر بكمية تكفي لاستدرجها إلى
غيبوبة طويلة لم تفق منها إلا بتجربة دوائه الجديد عليها، فلماذا لم تنجح هنا كل
التجارب التى أجريت على حيوانات التجارب، ثم استعملها الإنسان نجحت تماما إلا هذه
الحالة!.
عاد الطالب
يسأله:
-
ما الأمر يادكتور؟
-
هز رأسه و قد اعتدل في وقفته تماما تاركا الأجهزة و المريض و قد مضى
مع أفكاره شارداً يبحث عن دلالة أو معنى جديد لما حدث؛ قد يكون غير منتبه له.
لاذ الطلبة
بالصمت خشية أن يعاود أحدهم السؤال من جديد فيوبخه أو يتهمه بتشتيت أفكاره وافشال
التجربة، أما صالح فقد ازداد توتره أعلى الحجرة و هو يدور حبيس زواياها الأربعة فى
قلق حائر، هامساً لنفسه و محدثاً في ذات الوقت الدكتور ( سأعود أملا، و اذا عدت
لماذا و لمن، جاوبنى أيها الطبيب؟! ).
مد كامل أخيراً
يده الى الجسد المسجى أمامه متحسساً الوجه و هابطاً بيد مدققة منقبة إلى الصدر و
هو يتمتم محدثاً نفسه: هل هذا معقول؟! الجسد العاجز له إرادة؟ و يفرض إرادته
أيضا؟!.
( جاوبنى ايها
الطبيب أعود لمن، لحياة لم يعد فيها للروح
مكان؟، أم لزملاء عمل كانت أمنيتهم إزاحتى من طريقهم من أجل علاوة أو ترقية
أو حظوة عن المدير التافه؟، أم إلى زوجة سعدت بفراقي؟، أم لأولاد تلهوا عني
بدنياهم؟... أعود لمن و لماذا؟؛ لن أعود أبدا. )
رفع كامل رأسه
عن أجهزته ومازال يتمتم: لقد اختار الموت ليكن له ما أراد.
ارتسمت في سماء
الحجرة ابتسامة شفافة رائقة، تفيض بفرح، و امتلأت العينان براحة و هناء، استدار
صالح ليرى أجساداً نورانية تدور حوله في حلقة و هي فرحة بوجوده بينهاـ و عدم
مغادرته لها.
كان الفضاء
رحباً فسيحاً انطلق إليه في يسر، بعدها سمع
أصوات تغريد ذي رنين صاف لم يسمع مثله من قبل و رأى أجساداً نورانية تدور حوله مرحبة بعودته
إليها.