مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

النسرُ و الغربان بقلم: مؤيد الشايب (فلسطين)

النسرُ و الغربان
بقلم: مؤيد الشايب (فلسطين)
     ما زالَ أهلُ القرية التي تسكنُ سفحَ"جبل النسر" يتحدَّثون عن البندقيةِ العابثة التي أودتْ بحياة نسرهم الجميل؛ الذي ألِفوهُ منذُ سنين بعيدة يُحلِّقُ في سماء قريتهم مشكِّلًا لوحةً تنبضُ بالزهو و الكبرياء، و قد كان يعيشُ عاليًا على قمَّةِ الجبلِ بعيدًا عن أيدي و عيونِ المتطفِّلين.
     كان صاحبُ البندقية رجلًا عاد للتوِّ من غُربةٍ طويلة، و قدِ اكتسبَ هوايةً جديدة أخذ يمارسها مع طيورِ القريةِ الوادعة.
     كانت تجلسُ مع ابنها الصغير في حديقة المنزل الغنيّة بذكرياتِ أحاديثِ و همساتِ و مداعباتِ زوجها الذي غادرهم شهيدًا قبلَ سنة، تلقَّت هذا الصباح مكالمةً هاتفيّة من أخٍ لزوجها يعيشُ في بلدٍ بعيد، و سيأتي لزيارتهما هي و ابنها اليوم. 
     كانَ نعيقُ الغربان ما زالَ يُسمعُ في أنحاءِ القرية، يحاولُ الطفلُ - الذي لم يبلغِ السادسةَ بعد - أن يتسلَّقَ الشجرة الكبيرة التي تتوسَّطُ الحديقة، و تفرشُ جذورها تحت البيت كلِّه.
     عندما وصل أخو الزوج الشهيد كانت في استقباله، و فضّلَ أن يجلس في الحديقة، كانَ قد أحضرَ ابنه الصغير معه ليتعرَّف (كما قال) على ابنِ عمِّه، بدأ حديثه عن الكارثةِ التي حلَّتْ بالعائلة بعد غيابِ الأخِ الأصغر و استشهاده، و عن إلحاحه على أخيه منذ زمنٍ بعيد أن يتركَ القريةَ و يأتيَ ليعيش معه في ذلك البلد البعيد حيثُ الحياةُ تعطيه الكثير، و تنشله من عالمِ السياسة و ألاعيبها الدنيئة، و أنَّ أحلامه في تغيير هذا الوطن و تحريره لم تجلبْ له غيرَ الموتِ تاركًا خلفه زوجةً و ابنًا وحيدًا، و تحدَّثَ عن محاولاته العديدة إرسال المال له التي قوبلت بالرفض الدائم من قِبَلِ أخيه.
     أفاقتْ و عادتْ من عالمِ ذكرياتها و أحاديث الزوج الشهيد عن عالمٍ مليءٍ بالمُثل و القيم و الحريَّة، كانتْ تراقبُ ابنها و قد استطاع تسلُّقَ جذعِ الشجرة، والوصولَ إلى الأغصانِ الأقلِّ سماكةً من الجذع، تذكّرت زوجها عندما كان يحملُ الصغير، و يساعده على التسلُّق و يقولُ له: ذاتَ يومٍ ستصعدُ الشجرة وحدَك، و عندما تصلُ أعلاها ستحلِّقُ مثلَ نسر قريتنا الجميل.
     كانَ صوتُ نعيقِ الغربان يعلو أكثرَ و أكثر، عادَ الأخُ للحديث عن أخيه الشهيد، و أخبرها أنَّه كان مختلفًا عن إخوته و أقرانه، و لم يكن يشاركهم اهتماماتهم و ألعابهم، و إنَّما يلجأ لعالمٍ آخر صنعه بنفسه، و ما كانوا ليفهموا هذا العالمَ لأنه - كما يرى - عالمٌ خياليٌّ و رجالُهُ أتوا من الأساطيرِ و الخرافات.
     توقَّفَ عن الحديث عندما رأى ابنه و هو يحاول أن يصعد الشجرة مقلِّدًا ابنَ عمِّه، فزجره و نهاه، و حذَّرهُ من اتِّساخِ ملابسه أو الوقوع و إيذاء نفسه، و عليه ألَّا يُقلِّدَ ابن عمِّه المجنون كأبيه.
     بينَ حينٍ و حين كان يخطفها من ذكرياتها بأسئلته غير المتوقّعة، لكنها لا تلبثُ أن تعودَ لها بعد ردٍّ مقتضب، و عندما قرّر المغادرة أمسك بيدِ ابنه و قال: يجبُ أن ترحلي عن هذه القرية الملعونة التي تبعثُ على الكدرِ و الضيق.
     أمسكتْ بيدِ رَجُلِها الصغير بعد أن نزل من على الشجرة مُمنِّيًا النفسَ بمحاولةٍ أخرى للصعود و الوصول إلى القمَّة و من ثمَّ التحليق.
     فتحتِ الأمُّ باب البيت، قال الصغيرُ منزعجًا و هو ينظرُ إلى الخلف: "نعيقُ الغربان يملأ المكانَ يا أمي"، ردَّتِ الأمُّ و هي تضعُ قدميها داخل البيت و ظلالٌ من الذكرى بدأت تعبرُ ذاكرتها: "النسرُ مات... سنسمعُ النعيقَ كثيرًا"

التمعت عينا الصغير و قال: "إذًا لا بدَّ من نسرٍ جديد"..