(المركز السادس)
مقلم الأظافر
الكاتب/ أحمد العامود (سوري مقيم في
ألمانيا):
تتلمسُ خطواتٍ قادمةٍ نحوها، ذلك الهدوء على غير العادة في خريف تلك
السنة من عمرها.
لا ترى سوى ظلّ ستائرها
الوردية التي تتحرك، الأشياء أحياناً تقيس بميزانها نبضنا و أحاسيسنا، لقد اعتادت
أن تنسى نافذتها شبه مفتوحة، و القمر يحرس السماء غافياً على نصف شهر حتى يكتمل،
يتكئ سريرها خلف طاولة، ما برحت أن غصَّت بها أقلام أحمر الشفاه و ظلال العيون، و أدوات
زينتها الأنثوية، و ساعة يد ليست لتعرف بها الوقت، بل لتضبط عمرها على دقات قلبها
المتسارعة في النمو.
باب غرفتها تنبض قبضته بحركة
غريبة، تلك الغرفة التي تتصدر آخر الدور الثاني.
حين اختارت تلك الغرفة،
اختارتها لأنها تُطلُّ على ساحة جارها الذي كانت ترمقه بنظرة مراهقة كل صباح عند
خروجها إلى مدرستها؛ يعبر الشارع بقامة لا تخلو من الإثارة، هو الرياضي المعروف
بالحي، يرتدي قميصا شبه عارٍ، مسرعاً ليجلب الحليب و جريدة الصباح.
لم تنسَ أن توصد الباب من
الداخل، هي عادة فتح الأبواب لمراهقة، علَّ الفارس يأتي إليها فيخطفها على حصانه
الأبيض؛ أمها و زوج أمها يجاورانها تلك الغرفة في أول الدور ذاته.
لقد فقدت والدها و هي في
الخامسة من عمرها، إثرَ جلطة قلبية أصابته أثناء عودته من مهمة سفر، توقف نبضه،
فتوقفت معه آمال طفلة انتظرته لتحتفل بعيد ميلادها الخامس.
لم تملك أمها خياراً للعيش
سوى بالزواج من صديق والدها، الذي كان الأمل المرجو لعيشهما، بعدما ضغطت مصلحة
الضرائب عليهما برَهْن المنزل و بيعه، إيفاءً لديون الأب الذي عاش مديوناً، لكنه
كان طيباً و معروفاً بإخلاصه و محبته لجيرانه.
ذلك الزوج الصديق عاملها كطفلته، حتى إذا صارت بآخر سني مراهقتها،
أصبحت تخجل من تواجده هناك.
تملكها الخوف حين رأت الباب يُفتح بهدوء. لماذا كلما أحببنا شخصاً
بشكل جدي نخاف؟ الخوف يزرع فينا صندوقاً أسود من الأفكار.
لم تلمح سحنته التي شارفت
على لمس شرشفها الزهري، ما زالت تلك الستائر تتحرك بفعل ريح الخريف، ترسم خطوات
ذلك المتسلل ليلاً إلى عالمها الخاص. و مضت خطواته كسنين طال فيها العذاب، لم تشعر
أبداً في حياتها بكل ذلك الضيق كتلك اللحظة.
غابت عن شفتيها المرتجفتين
كل الكلمات، حتى الحروف جفَّت عند حبالها الصوتية التي انعقدت، لم تستطع الصراخ بـ
"لا"، تيبسَّت كلُّ ضلوعها، جفت مآقيها، تجمدت أطرافها، و الموت دورها
الوحيد الذي لعبته.
رفع الغطاء عنها، اقترب
منها كنمر أحكم قبضته على الفريسة، برقٌ لمعَ في عينيها و قلبها حين رأته، حاولت
فكَّ عقدها الصوتية، فذلك الذي ربّاها كطفلته يتلوى فوقها برائحة الخمر.
أغلق فمها بيده اليسرى، و اليمنى
راحت تنهش ردائها الشفاف، تهادت بعنف و حقد و أسى دمعةٌ على خدها، تريد أن تقول له
لماذا؟ ألست طفلتك المدللة؟ ألستَ من اعتاد أن يناديني بمدللتي؟
تمزق- بقوة حركته - ما كان
يستر صدرها المرمري الصغير، تحاول يائسة - دون جدوى - إبعاده عنها، وزنه فاق قوتها،
كأن آثام كل الكفار تجمعت فيه.
بدأ يزداد وزنه فوقها، كادت
أن تستسلم لغاياته و قبلاته الدنيئة، لولا أن لمحت على الطاولة مقلِّم الأظافر؛
نسيت للحظة أنه كاد يفقدها أغلى ما تملكه الفتاة.
حاولت جاهدة الوصول لذلك
المقلّم، هو الذي كان قريباً منها، أصبح يبعد مسافة عمر في تلك اللحظة، الموت و الحياة
دائماً ما يكونان قريبين منّا لدرجة أننا لا نميز أيهما نعيش الآن.
أمسكت به، غرزته برقبته،
كأنها تريد أن تقطع حباله الصوتية كي لا يصرخ، وتحرمه كلمة لا، كما حرمها إياها
قبل برهة، رمته كصياد واثق من موت طريدتهِ، أخذت نفساً عميقاً امتزج بدموع القهر،
لم يخطر ببالها أي شيء، إلا أمها.
أمسكت بقلم كانت تخفيه في
درج طاولتها، اعتادت أن تكتب به بعض العبارات الشعرية، وورقة من دفتر مذكراتها، لتعترف بقتله و تبرر
فعلتها أمام أمها، أو ربما لمحكمة لا تعلم من قاضيها، و هل سيصدقونها ؟ ترتجف
الحروف على سطرها، ترسم آخر أمنية لها:
ـ أمي سامحيني!
نعم، قررت القفز من تلك
النافذة التي بدت كفتحة أمل طالما انتظرتها، رمت بالورقة لتوقِّع عليها شاهدة،
دماء ذلك الثور الهائج، وتقف أمام نافذتها و تهوي ببطء دون تردد.
حتى إذا ما وصلت الأرض،
ترتجف فجأة لتجد نفسها بجانب سريرها، وسادتها غطت رأسها، وقد غرق خداها ببعض
الدموع.
تبحث في غرفتها بنظرة
سريعة، لتجد أنَّ كل ما رأته حلم، و مقلّم الأظافر مازال مكانه على تلك الطاولة،
بين زحمة الأنوثة التي كادت أن تفقدها منذ برهة، ابتسمت ابتسامة خجلة كشمس تنفض عنها
ضباب الشفق الأول، لتبدأ يومها من جديد بصوت ذلك الجار، و هو يفتح باب شقته ليجلب
الحليب و جريدة الصباح.