مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

نور بقلم: صبري بسيوني بهوت (مصر)

نور
بقلم: صبري بسيوني بهوت (مصر)
   قبل أن تُلقى في مياه البحر، عند الشاطئ كان عمرها قد اكتمل عامين؛ يمكنها ـ رغم صمتها ـ أن تدرك، أو يُطبع في عقلها صورة المشهد: أمواج هادئة، مركب صغير, و في الظلام بعض الوجوه تختلط؛ فمنها من تألفه، و منها من لم تره من قبل... لكن (نور) عندما خرجت من حدود سوريا قبل عام لم تكن تدرك شيئا غير ثدي أمها... هي لا تعلم في أي البلاد كانت تعيش، في حماة، في حلب، في دمشق، في درعا أو في غيرها من هذه البلاد المنكوبة؛ هي لا تذكر تلك اللحظة التي نزحت فيها الأسرة خوفا و هلعا؛ هل شب حريق من جراء القتال!، أم أنه صاروخا أتى على دارهم و لم يجدوا مكانا آمنا فيها؟، هل  أخرجهم الجوع و الخوف؟!، هل هذه هي أسرتها؟ أمها و أبوها و شقيقتاها و ابن عمهم، أم أن هؤلاء هم من بقي من أسرة كانت كبيرة و لم يتمكن من الفرار غيرهم؟.
مضى عام أو أكثر في رحلة التيه و الذل و المغامرة صوب المجهول الأول الذي حط بهذه الأسرة في مدينة الإسكندرية من أرض مصر...
في حي فقير من المدينة العريقة احتضنهم الناس الطيبون بحق الأخوة و حق الضيافة و حق عابر السبيل و ساعدوهم علي الاستقرار؛ باستئجار شقة متواضعة جدا في الأسفل منها دكان صغير يمارس فيه الأب مهنة الجزارة التي ترك بلاده عليها... لقد شملهم هؤلاء الجيران الفقراء بعطفهم الكامل؛ من توفير الأمان علي فتاتين مراهقتين إلي أن يغرفوا لهم من كل ما يطبخون؛ تآلفوا و تفاعلوا لدرجة أنهم أصبحوا يتحدثون باللهجة المصرية حتى فيما بينهم أحيانا، لكن ذلك لم يكن كافيا لاستقرار هذه الأسرة الطريدة و سلامتها؛ فقد كانت الأم مصابة بمرض في القلب، تتعاظم أعراضه مع الأحداث و مرور الوقت و يحتاج الي جراحة و الجراحة مكلفة.
ـ لا تخافي؛ إن شاء الله هنعمل العملية...
هكذا خاطب الرجل زوجته و قد وجدها ساهمة حزينة عندما أويا إلي فراشهما ذات مساء؛ فتنهدت المرأة تنهيدة طويلة؛ شعر بصهدها في صدره و قالت:
- من وين يا حبيب ألبي؟!.
- أنا معي مبلغ و بدي أكلم إمام الجامع و...
فقاطعته:
- شو بتئول يا عيني!؛ يا عيب الشوم... كفاية ما سوّوه معنا... كفاية عليهم حالهم "الغاز و الكهربا و الدروس الخصوصية و غيره و غيره..." لازم يكون عندنا إحساس شوي...
- أنا أقول يعني المصاري اللي معانا نبدأ نعمل بيهم الأشعات و التحاليل؛ هيشوفونا رايحين جايين و هيعرفوا لوحدهم و مش هيسيبونا، و ربنا حنين؛ هو سترها معانا و هيسترها كمان إن شاء الله... نامي يا غالية، اقرأي آية الكرسي و نامي...
قالها و هو يقبل رأسها و يديها في حنان و دموع
.....
في صبيحة اليوم التالي كان الرجل يجلس في دكانه ينظر الي الذبيحة المعلقة يتلمس زبونا لا ليشتري منه بقدر ما ليأخذه من طاحونة الأفكار التي تدور في رأسه و لو للحظات؛ إذا برجل في منتصف العمر يدخل عليه، و يلقي السلام و يقول:
- أنا اسمي أبو مندور...
 و بعد أن تبادلا عبارات التحيه؛ سأله أبو مندور عن حاله؛ فأخبره عن أسرته و عن كرم الناس معه؛ فبالغ في السؤال؛ فأخبره عن مرض زوجته و ضيق ذات اليد؛ فبالغ في السؤال أكثر حتي أباح له بالمبلغ الذي ادخره من تجارته و عطف الناس لإجراء الجراحة لزوجته... فقال أبو مندور:
ـ و لا يهمك؛ أنا عندي حل نهائي لكل مشاكلك دي؛ فوت عليَ بالليل؛ ها نتكلم و ربنا هيحلها.
انصرف أبو مندور بعد أن ترك له العنوان...
....
 لم يضيع الرجل وقتا كحال الغريق عندما يجد قشة صغيرة، و راح يمنّي نفسه:
"لعلّه من رجال الأعمال أو يعرف أحدا منهم ممن يبحثون عن مصارف لزكاة أموالهم وحالته و ظروفه تعد قياسية لهذا الغرض"...
عندما جاء الليل؛ ذهب الرجل دون أن يخبر أحدا من أسرته يبحث عن عنوان أبي مندور، وبعد تخبط في متاهات شعبية ضيقة؛ وجده  جالسا إلى مكتب متواضع في محل مترب يبيع الأدوات المستعملة.
جلس الرجل و تبادلا التحية حتي جاء الشاي، و مع أول رشفة همّ أبو مندور بالحديث و الرجل يشتعل لهفة علي سماع كلام يدور في أذنيه؛ لكن أبا مندور بادره بقوله:
ـ شوف يا سيدي؛ إحنا عندنا مثل بيقول: من جاور المسعد يسعد، و من جاور الحداد ينكوي بناره؛ و انت هتفضل قاعد بعيلتينك و مراتك العيّانة في وسط المصريين مش هينوبك إلا الفقر اللي همٌ فيه.
- يعطيك العافية؛ ما في غير هون، الحمد لله، ما في بديل. 
- مفيش بديل إزاي؟!... دا فيه بديل و بديل.
- كيف يا أخي؟ خبرني.
ـ أوروبا؛ تعرف يعني إيه أوروبا؟ أوروبا: بلاد المال و الجمال و العلم و النظام و الحرية و الطب، كفاية إنهم بيحترموا الإنسان يا أخي.
راح الرجل و قد تبددت أحلامه و كسرت خواطره يعدد له أسبابا كثيرة للرفض، و كلما قدم سببا أبطله أبو مندور حتي قام من عنده على وعد بالمعاودة بعد المشاورة...
انصرف و بينه و بين نفسه ينوي ألا يعود إليه؛ لكنه لم يسلم من ازدحام جديد في رأسه خاصة و أنه حبس الأمر علي نفسه و لم يبح به لزوجته و أولاده يوما كاملا؛ فلما أراد أن يفضفض؛ دعاهم بعد أن تناولوا وجبة العشاء و جلسوا يتسامرون، و فتح الموضوع، و بينما هم يتحاورون في الأمر حوار الرافضين، و لسان حالهم يقول: الحمد لله ما أغنانا عن المغامرة؛ إذا بأبي مندور ينادي عليه...
لم يزد الرجل علي أن قال: تفضل يا أخي؛ حتي وجدوه بينهم يحيي أفراد الأسرة و يلاطفهم كأنه يعرفهم من زمن... بدأ أبو مندور يعدد مزايا الرحلة و كيف أنها مضمونة:
- هناخد اللي معاكم و الباقي لما تروحوا و تستقروا تمام و تعملوا العملية كمان... و بعدين رجليكم مش هتتبل؛ من الشط للمركب و من المركب للشط.
راح يمنيهم بالمال و الاستقرار و السعادة، و يضرب لهم أمثلة بالحق أو بالباطل، و لم يتركهم إلا و قد اهتزت دواعي الرفض عندهم، و ظل يعاودهم عدة أيام مدّعيا أنه مشفق عليهم و متعاطف مع قضيتهم حتي تزيّنت المغامرة تماما في خيال الأسرة،
و تبدّدت مخاوفها..فقبلوا و تحمسوا و دفعوا ما معهم
....
وضعوا كل أغراضهم في الحقائب حتي ما استبقوا عليه من نقود و احتفظ الرجل بالأوراق الرسمية في جيبه بعد وضعها في كيس من البلاستيك...
ودّعهم إمام المسجد بعد أن فشل في إقناعهم بالعدول و دسّ ورقة مالية للرجل في جيبه و هو يقول:
- علي العموم مكانكم محفوظ إذا احتاجتونا هتلاقونا... و استؤنفت رحلة الذل و التيه و المغامرة نحو المجهول الثاني.
....
في المكان و الزمان المحددين بدقة لا يعتادها المصريون؛ كان الموعد علي شاطئ المتوسط إلي الشرق من مدينة الإسكندرية بمائة (كيلو متر) تقريبا.
الرياح ساكنة، الأمواج هادئة، المياه عند الشاطئ ليست عميقة، الظلام يكسو المكان كله، الأصوات الخافته الخائفة أسهل في التمييز من الوجوه، و ضوء النجوم في الأفق لا يصل منه شيء هنا...
الشاطئ يمتد شرقا و غربا إلى حيث لا تدرك العين، و البحر يمتد شمالا صوب أوروبا الحلم الرابض علي ضفته الأخري أما في الجنوب فتلال رملية غير منتظمة و مجهول ما خلفها، و مركب صغير يقف حيث بداية المياه التي تمكّنه من العوم... نزل شابان شديدان بملابس البحر؛ حملا الأغراض ثم عادا ليحملا أفراد الأسرة دون أن تبتل أقدامهم كما وعد أبو مندور.
حمل الأول ( نور) و دخل بها إلى البحر و توجه الآخر ليحمل أمها، لكن كل شيء تبدد في لحظة؛ إنها طلقات نارية كثيفة من حولهم؛ ألقي الشاب (نور) في الماء...
صرخ الجميع و هرعوا داخل البحر؛ و في ثوان قليلة تمكن الرجل من انتشال (نور) دونما أن يصيبها مكروه؛  اللهم إلّا مياه البحر التي غمرت ملابسها و جسدها.
الآن الأسرة تقف في هذا المشهد المخيفف و قد ابتلت ملابسهم كليا أو جزئيا، لا أحد معهم؛ فقد اختفى الشابان و المركب في لمح البصر؛ ما العمل؟ و إلى أين يهربون؟؛ كل همّهم الآن ألّا يقعوا في قبضة رجال حرس الحدود؛ و هؤلاء سيأتون من الشرق أو من الغرب بالضرورة، و في الشمال البحر، فلا يتبقي إلاَ اتجاه الجنوب حيث التلال الرملية المجهول ما خلفها؛ فتحركوا تجهاهها استئنافا لرحلة الذل و التيه و المغامرة صوب المجهول الثالث.
....
بضع مئات من الأمتار في تعثر و تخبط بين مرتفعات و منخفضات؛ تغوص أقدامهم الحافية بعد فقد أحذيتهم حينا في الرمال و حينا تدوس فوق أشواك برية؛ تحتاج معرفة أماكنها سلفا لتفاديها.
التصقت الرمال بملابسهم المبتلة فأثقلتهم، و أعياهم التعب و الخوف و الفشل و اليأس و الضياع...
 (نور) يحملها والدها؛ يحاول أن يمنحها دفئا مستحيلا و أمانا مفقودا، و الأم المريضة و قد فقدت القدرة علي المقاومة تتكئ علي ابنتيها و ابن عمهما... شعاع من نور يأتي من هناك فتبعوه؛ إنها قرية هادئة مطمئنة في أمان الله، دخلوها من عند قدميها، القرية نائمة إلّا من مسجد، انصرف الناس منه لتوهم بعد أداء صلاة الفجر و بقي فيه الإمام يراجع أعمالا إدارية، دخلوا عليه؛ فارتاب منهم أكثر مما أشفق عليهم، تناول منهم أوراقهم و من ضمنها تصاريح إقامتهم في مدينة الإسكندرية، و مع عودة أحد الجيران الأقرب للمسجد علي صوت الجلبة قال الإمام:
ـ هاطلب لكم المركز...
و ما أن سمعت المرأة اسم الشرطة حتي سقطت مغشيا عليها؛ و مع صرخة الشاب: "مرت عمي"، و انحنى محاولا إسعافها... تناول الجار الأوراق من الإمام ـ بعد أن  أفاقت المرأة ـ و سألهم:
- أنتم عايزين إيه بالظبط؟
فقالت المرأة و هي تجهش بالبكاء:
ـ ما يكتب عليكم الله ما صرنا فيه بلاش المركز ـ كأنما هي عقدة قد تكونت عندها ـ  أضاف زوجها:
ـ و معانا 100 جنيه مبلولة لو حد ياخدها و يودينا اسكندرية يبفى كتر خيركم...
و صمت قليلا ثم قال و هو متردد و ينظر إلى الأرض:
ـ و لو عندكم أطفال صغيرين؛ يعني عايزين هدمة ناشفة للبنت الصغيرة أحسن هاتموت من البرد...
نظر إليه ذلك الجار و هو يقاوم كثافة من الدموع قد امتلأت بها عيناه و قال له:
- بقى مش كفاية عليكم ذل واحد بتعملوه اتنين، ثم انفجر في بكاء حاد و هو يسرع الخطا تجاه بيته القريب ليحضر كل ما استطاع من ملابس بصرف النظر عن مقاساتها...
أمنوا قليلا و هدأوا كثيرا، و دخلوا حمامات المسجد، و ارتدوا ما أمكن من ملابس جافة، و كان الإمام قد زالت عنه الريبة ورق لحالهم؛ فذهب إلى حانوت له غير بعيد، و أحضر كمية من المأكولات الجافة و المشروبات.
....
كان ضوء النهار قد بدأ يعم المكان فاقتادوهم إلى حيث يتخذون سيارة ربع نقل مكشوفة إلى الموقف العمومي في المدينة و منه بالمواصلات العادية إلى مدينة الاسكندرية في الحركة الوحيدة التي يعرفون إلي أين هم ذاهبون!...
لم يكن سائق السيارة كريما فقط بتنازله عن أجرته، و إنما دخل بهم الموقف العمومي، و ظل منتظرا حتي ركبوا و تحركت بهم السيارة دون ملل ممن كانوا يركبون معه؛ ليس فقط و إنما دفعت إليهم امرأة كانت في طريقها إلى السوق لتبيع بعض الخضروات بما استطاعوا أن يحملوا من خضرواتها، و لسان حالها يقول: لو أنهم أخذوا كل ما معها و رجعت إلي بيتها لكان أفضل كثيرا عندها.
كان كل ذلك يدور بينما (نور) صامتة عيناها تتحركان كما الرادار يسجل كل لحظة و كل لمحة...
"تُرى ماذا يمكن أن تقول (نور) لجيلها  بعد عقدين أو ثلاثة؟، من المتهم؟، من البريء؟، من الجاني؟، و من الضحية؟."
فيض من الأسئلة يهاجم رأس ذلك الجار و هو يتابع (نور) محمولة عند عنق والدها ساق تتدلى من كل ناحية؛ تناول قدمها الضئيل فقبلها و دس ورقة مالية في يدها، و ظل يرقبها في خياله حتى اطمأن إلى أنها استقرت عند إمام المسجد الذي ودّعها  و أسرتها  بالأمس و هو يقول لهم:
- مكانكم محفوظ؛ إذا احتاجتونا ها تلاقونا.