(المركز الرابع)
دورة حياتي
الكاتب/ عبدالصبور الحسن (سوريا):
عندما مت،ُّ ذرف أهلي و أصدقائي عليّ الكثير من الدّموع، ثمّ واروني تحت
التّراب و مضوا.
تركوني لمصيري المحتوم، إذ صعدتْ روحي إلى
السّماء تحمل ما قدّمته يداي، أمّا جسدي، فقد أخذ يغور في أعماق الأرض شيئا فشيئا
حتّى وصلتُ إلى طبقة جيولوجيّة قال لي سكّانها عن اسمها، و لكنّني نسيته بسبب
ذاكرتي المثقّبة.
هناك في أعماق الأرض، كان الضّغط و الحرارة
كبيرين جدّا، حتّى أنّ جسدي ذاب مع أجساد الدّيناصورات.
تحت هذه الظّروف القاسية، أخذت خلاياي تتحوّل إلى
سائل لزج أسود برائحة غريبة، لابد وأنّه النّفط الخام الذي قرأت عنه يوما.
فجأة، نزل فوقي أنبوب معدنيّ غليظ، مصحوب بضغط
سلبيّ، سحبني إلى وجه الأرض ثانية، إلى داخل برميل أزرق، كان معي في البرميل
ديناصور صغير مجنّح.
سافرنا على ظهر باخرة في رحلة عبر أعالي البحار،
لم أعلم أنّني كمواطن عربيّ لي قيمة إلا عندما صرتُ نفطا خاما، فقد بدأ الجميع
يتقاتل عليّ، و بدأتْ مقارنتي مع أنواع النّفط الأخرى من حيث جودتي بالمقارنة مع
سعري الزّهيد.
انتهى بي المطاف بعد رحلة طويلة في البحار و الأسواق
داخل أنابيب مصفاة للنفط في أوربا، في المصفاة شاهدت ديكتاتورا جعلوا منه شحما
للمسنّنات و الجنازير التي تسير عليها، كنت أسمع صراخه و عويله عندما يأتي بين
المسنّن و الجنزير، كم هي عظيمة حكمة الله.
بالنّسبة لرفيق الرّحلة و شريكي في البرميل - الدّيناصور
المجنّح - فقد صار وقودا للطّائرات، أما أنا فصرت مادّة أوليّة لصنع الإطارات.
شكّلوني في أحد المعامل إطارا لجرّار زراعيّ،
اشتراني مزارع في الرّيف الإنكليزيّ يدعى السّيّد (رالف)، في الحقيقة كانت تلك
الأيّام التي قضيتها كإطار في جرّار السّيّد رالف أجمل أيّام حياتي، فقد كان
يعاملني بلطف، فلا يحمّل الجرّار أو يشدّ به فوق طاقته، ناهيك عن حرصه على بقائي
نظيفا على الدّوام.
و لحسّه العالي، فقد باعني لسوق الإطارات
المستعملة وأنا في أوج شبابي، قبل أن أصل إلى مرحلة الهرم.
تمّ شحني من سوق الإطارات المستعملة في رحلة عودة
طويلة إلى بلادي الأصليّة، حيث اشتراني أحد أحفادي كإطار مستعمل، كم هو فظ و غليظ
هذا الحفيد، لم أكن أتصور أن يكون في ذرّيتي شخص قاسٍ كهذا!
لم يراعِ كم كنت أعاني من النّفخة عندما كنت
إنسانا! فقد ملأني بالهواء إلى أقصى حدّ ممكن حتّى أوشكت أن أنفجر، ليس هذا
و حسب، بل كان يحرث الأراضي الصخريّة، و يشدّ بجرّاره عشرة أطنان من الشّوندر
السّكري حتّى هرمت بسرعة كبيرة فتآكلتْ تلك النّقوش البارزة على سطحي و ظهرت
الخيوط و الأسلاك من أحشائي.
و عند وصولي لهذه الحالة باعني لصانع القفاف الذي
سلخ مني شريحة كبيرة صنع منها قفّة بأذنين، ثم رمى ما لا يمكن الاستفادة منه في
الحاوية، فأخذني بعض الشّبان و أحرقوني في إحدى مظاهراتهم، أما حفيدي المغضوب فقد
عاد و اشترى القفّة ليحمل بها روث الأبقار، ثم يذهب بي إلى الحقل ليملأني بالحجارة
دون رحمة.
كل هذا قبلته و رضيت به، أمّا أن يحملني من أذنيّ
كما يحمل الأرانب فهذا ما لا أقبل به مطلقا!.