بقلم: جمعة الدبيس العنزي (سوري مقيم بالسعودية)
بدا الطريق أمامه لا نهاية له, و هو يجري لاهثاً لا يلوي على شيء, يكاد
قلبه ينخلع من بين جوانحه, و قد خال كل شيء خلفه أياد متوحشة تكاد تمسك بتلابيبه
حيث سيلفظ أنفاسه, و حينها ستكون حصباء الطريق الموحشة آخر مشهد من مشاهد حياته
البائسة.
هوت قدمه في و هدة لم يلتمسها في حلكة الليل البهيم, فانهار لحينه و
قد استحضرت ذاكرته شريط حياته في لحظات تختصر العمر...
ظلام مطبق, و سكون مهيب يلف المكان, أتراه عالم البرزخ؟
ترامى إلى مسامعه صوت جندب, و شعر بحرارة تغشو وجهه, و ألم واخز في
كفه اليمنى, ما زال حياً!
تيقن ذلك, نظر بهلع إلى الخلف, لا أحد.
طفرت الدموع من عينيه, ليس حزناً, و لا حتى فرحاً, مشاعر ممزوجة بين
هذا و ذاك, لا مكان للألم الآن, جرى الدم حاراً في عروقه, و تصبب عرقه بارداً, و
سكنت دقات قلبه شيئاً فشيئاً...
لم يكترث للدماء التي سالت بغزارة من مقدمة رأسه, و لم يلق بالاً
للأشواك التي غُرزت براحتي كفيه, كل هذه تفاصيل سخيفة, الأهم: أنه ما زال يتنفس و
بين جنبيه قلب يخفق.
فقد كل أمتعته, و نعليه , و قبعته, و تمزق الجزء الأكبر من ثيابه, هو
شبه عار, لا يهم, ما زال حياً.
هدأ روعه قليلاً فشرع يفكر بعمق, ماذا تراه يريد منه ذاك الوحش البشري
المرعب, تراءت له صورته المخيفة بعضلاته المفتولة, و رائحته المنتنة, بوجهه الصارم
القسمات الخالي من الشعر, بملامحه القاسية التي تخلو من الآدمية, بزيه الغربي
الطراز, هو لم يعتد عليه, و لم يخالفه الرأي حتى, لما حصل ذلك!
استحضر الحوار الذي دار بينهم:
-
السلام عليكم.
-
...!
-
هل لي بشربة ماء؟
-
من أنت؟ من أين أتيت؟
-
ليس من بعيد, هناك؛ خلف تلك التلال
-
هربت منهم إذاً
-
هو ذاك, كيف عرفت؟
-
كلهم هربوا, و مروا من هنا
-
خمّنت ذلك, الماء؟
-
يا لحظك الطيب, ثملتُ قبل أن ألاقيك, بقي ما يكفي لتطفأ ظمأك و تنتشي
روحك الملتاعة, و تنسى شيئا مما عانيته من أولئك البرابرة المتخلفين...
-
عذراً لا أشرب هذا
حدجه بنظره ثاقبة و تابع حديثه:
-
آها, أنت منهم إذاً؟
-
لا لا.
-
و لم هربت منهم؟
-
لست منهم و لن أكون كذلك, فأنا أقبل الآخر, و كل البشر بنظري متساوون,
و لهم حرية الاعتقاد و التعبير, ثم لست أنا الذي أتلذذ بتعذيب البشر, و لا بتقطيع
أوصالهم, و لا بسبي نسائهم, ثم ألا ترى هيئتي, هل أبدو منهم؟
-
لا ألومك إن ضقت ذرعاً بترهاتهم و سفسطتهم, دعك منهم و عش ما تبقى من
أيامك المعدودة معنا, قلباً و فكراً, سنموت في النهاية و نتحول إلى لا شيء...
(نولد بلا رغبة, نموت, بلا
سبب, لا شيء يوقف زحفنا المجنون نحو المجهول...)
هذه الكلمات الذهبية
هي قاعدتنا في الحياة.
-
يا رباه! ماذا أسمع, أنت...؟
تغيرت ملامح وجهه القبيحة أصلاً, و نتأ عرق ضخم في مقدمة جمجمته
الصلعاء, و انتفخت أوداجه, و احمرّت عيناه, و انتفض كالملسوع و ضرب الأرض بكلتا
قدميه و هو يجأر:
-
ما اسمك يا هذا؟
-
اسمي...
كانت آخر كلمة استطاع أن ينطق بها, إذ أن (الوحش) لحظة أن سمع اسمه
انهال عليه بصفعة هائلة أفقدته صوابه و طرحته أرضاً, أو كادت, لولا أنه رأى الوحش
ينقض على بندقية كانت معلقة على الشجرة التي تبعد عنه بضعة أمتار...
تحامل على نفسه و قد تراءت له نهايته بعد حين, أخذ يعدو مسرعاً بكل ما
أوتي من قوة, و أثناء ذلك أمطره غريمه برشقات متتالية من الرصاص لم تنقطع, و لم
تصبه.
الظلام الدامس و الأشجار الكثيفة و الممر الضيق المتعرج, عوامل ساعدت
على نجاته و تواريه عن أنظار مطارده.
شعر أن أقل ما يجب أن يفعله هو أن يسجد لربه سجدتي شكر على خلاصه,
اتكأ على جذع شجرة سنديان ليستريح قليلاً و يواصل رحلة التيه هذه, غشاه النعاس فغط
في نوم عميق.
رحلت به أحلامه بعيداً, إلى قريته القابعة على ضفاف ذاك النهر الخالد,
هناك حيث ترك مرابع طفولته, ومنزله الصغير, تذكر صباحاته النديّة و أيامه الخوالي,
حيث كان يمضي ساعات طوال متجولاً بين الحقول الخصيبة, و مراقباً أسراب الفراشات
الملونة تسبح بعذوبة في المدى المعشوشب...
-
أي ريحٍ طيبة جاءت بك, يا لسعادتي بلقياك, كنت واثقاً من أنك لن تذهب
بعيداً...
وثب مذعوراً من رقاده على صوت لم يكن لينساه, ذاك الذي ابتدأت به
مأساته! هو بعينه, الظلامي المتجهم أبداً, بشعره الكث الأجعد, المغبر, الذي يكاد
يخفي ملامح وجهه المريع, و الذي خاله لم يبتسم قط, لم يختلف شيء في هيئته, بدا له
أن المدية التي يلوّح بها بيده اليمنى دائماً صارت أطول ربما!
تجمد الدم في عروقه, و لم ينبس ببنت شفه, لا جدوى من الكلام, هو الموت
لا محالة, لا مفر إذاً إلاّ بمحاولة الهروب إلى الخلف, حيث الوحش يترصده.
قهقهة مريعة سحقت خيارته المحدودة صدرت من خلف ظهره, إنه الوحش!
أيعقل هذا؟ خصمان لدودان هنا, الوحش و الظلامي, أيقتتلان وينجو؟
-
لم يخب ظني بك يا صديقي العزيز, قال الوحش للظلامي.
اكتفى الأخير بأن ابتسم ابتسامة صفراء أتبعها بعلامة من يده كدليلٍ
على الانتصار و الظفر.
-
أنتما صديقان إذاً!
-
دعك من هذا فلن نهدر وقتنا الثمين معك, فلدينا الكثير مما ينبغي أن
نقوم به... لقد صدر عليك حكماً نهائياً و عادلاً بآن واحد, من كلينا نحن الاثنين,
الموت.
-
...
-
لكننا ومن باب الإنصاف و إرضاء الضمير قررنا أن نمنحك محاكمة عادلة
تنتهي بإعدامك, و لنبدأ الآن: ما اسمك؟
-
معتدل.
-
انتهت –