مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المجد الثّاني الكاتب/ محمد فطومي ( تونس)

(المركز الأول)
المجد الثّاني
الكاتب/ محمد فطومي ( تونس):
أوّل ابتسامة عرفتها البشريّة كانت من نصيب صبيّ أشقر على علبة معجون أسنان.
عقب ظهور المنتج توالت المحاولات من هنا وهناك لتقليد الابتسامة لكنّها لم تكن إلا نسخا مزوّرة تعوزها الحرارة و الرّوح المُفعمة بالجرأة التي لا تمنحها الطّبيعة مرّتين.
بفضل حوزها شرف إطلاق الابتسامة الأولى حقّقت الشّركة أرباحا طائلة مكّنتها في غضون أشهر من سحق منافسيها. و صار الصبيّ الأشقر الفتى الأكثر شهرة على وجه الأرض. و سُمّي طفل العالم، و انفردت إحدى الصّحف العنصريّة بوسمه الطّفل الأبيض فباعت ملايين النّسخ. أُلحقت الابتسامة بالمعاهدات الكبرى و أُدرجت رسميّا ضمن لوائح اليونسكو على أنّها إرث عالميّ. مأخوذا بنشوة الجمهور اللاّنهائيّ، تحدّث إلى الجرائد و في التّلفازات عن ابتسامته و كيف أنّها شغل العالم، و عيّنت له الدّولة حرّاسا شخصيّين لحمايته و وضعت تحت تصرّفه جميع موظّفيها و فريقا من المحامين و مدير أعمال يكره تبذير الوقت، لكنّه سرعان ما استغنى عنهم و اختار عوضا عن ذلك إتاحة الفرصة للمعطّلين من عائلته المُوسّعة. و أوكل إلى صديقته مهمّة فرز البريد؛ رسائل المُعجبين تُحرق فيما يُنظر برويّة في الصّفقات المُغرية. بارك المجتمع الدّوليّ اختياره و افتخرت به عائلته كثيرا و راحوا يتحدّثون عنه إلى وسائل الإعلام حيثما حلّوا قائلين: «نحن فخورون بأنّ الله الخالق قد اختار ابننا بالذات ليلقي بابتسامة العالم على محيّاه دون غيره...» و قال والده: «لقد أنقذ ابني البشريّة من الكآبة في دقائقها الأخيرة».
بخطى واثقة تحوّل طفل العالم إلى نجم يضيء بحنوّ سماء النّاس، فهو الذي يطلع عليك عبر لافتات موزّعة على امتداد الطّريق راجيا لك سفرة طيّبة، و هو الذي يطلّ عليك من خلال البنايات العملاقة ليذكّرك بفضيلة الحِلم حين تكون أعصابك على أشدّها وقت الذّروة، و هو الذي يشحنك بالأمل و الحماس و أنت تستقبل يوما جديدا، و هو الذي يربّت على وجدانك بابتسامته العذبة قبل النّوم متمنّيا لك ليلة سعيدة. و هو الذي يقول لك «صحّة و عافية» حين تفرغ من الأكل. من أجل ذلك كلّه خُصّص له راتب يُقدّر بعشرين ألف دولار شهريّا، يُصرف له مدى الحياة. فشكرهم و ألقى كلمة تحدّث فيها عن ابتسامته وكيف أنّ الأمر لم يكن بسيطا كما تتخيّله فئة كبيرة من عقلاء الدّنيا، و ابتسمها لهم ممتنّا.
قدّم عروضا و ألقى محاضرات في زوايا الأرض الأربعة ليحدّث النّاس عن ابتسامته التي ابتسمها ذات يوم و عن كفاحه المضني من أجل التّذكير بها حتّى لا يطالها التّلف، و قال إنّه وحّد العالم بابتسامته السّاحرة التي ابتسمها يوما عندما كان صبيّا. كثيرون اتّخذوا من الابتسامة موضوعا لأطروحاتهم و ألّف آخرون كتبا لشرحها على نحو غير مسطّح مُستعملين عبارات عسيرة على الهضم تجعل المتلقّين يقرّون بأنّهم استحقّوا مواقعهم كمجرّد قرّاء عاديّين.
و في حادثة معزولة اضطر طفل العالم إلى أن يمثل أمام القضاء بعدما رفعت ضدّه شركة معجون الأسنان قضيّة تطالبه فيها بنصيب من عائدات الإعلانات و العروض و أشرطة السّينما و كلّ ما قد تدرّه عليه الابتسامة من مال. و بدل أن يؤدّي القسم ابتسم الابتسامة الأولى للقاضي فكسب المعركة و غُرّمت الشّركة لفائدته. و لقد محق خصومه في معركة أخرى شنّها عليه حاسدون شكّكوا في ابتسامته و قالوا إنّ العيوب تساورها و أنّ ملامح النّائم هي أصدق تعبير إنسانيّ على الإطلاق. أدرك العالم إثر تلك الضجّة أنّ لديه أعداء كثيرين، فمكّنوه من حصانة كالتي تُمنح للقادة السامين. و نصّبته بلاده سفيرا للنّوايا الحسنة و ناطقا باسمها في مؤتمرات المحبّة و السّلام، و أدّى دوره على أتمّ صورة و تحدّث عن ابتسامته و كيف أنّها غسلت البشريّة من شرورها و أعلن لأوّل مرّة أنّ ابتسامته كانت أكثر عبقرية من نور الشّمس المنعكس على ليمونة، و ابتسمها لهم. رُخّص له أيضا في ارتكاب خمس جرائم وطنيّة و جريمتين خارج أرض الوطن، فتجاوز السّقف لكنّه ابتسم للقاضي فعفا عنه و محا له فائض الجرائم و وهبه واحدة إضافيّة على أن تُرتكب بعد موته.
في الجنازة أبّن طفل العالم والده بنصّ مؤثّر تحدّث فيه عن ابتسامته و كيف أنّ المرحوم أحبّها كثيرا و راهن عليها. حضرت شخصيّات عالميّة لتُؤدّي واجب العزاء، فقام معهم بواجب الضّيافة و رغم حزنه ابتسمها لهم من باب العرفان بالجميل. بعد أسابيع أقام حفلة بمناسبة تخرّج ابنه من الكلّيّة الحربيّة، ألقى في مُستهلّها كلمة حدّث فيها المدعوّين عن الابتسامة الأولى التي ابتسمها يوما، و قال إنّها معجزة لن تتكرّر. و ابتسمها لهم ثلاث مرّات إجلالا لهم على قدومهم. و لمّا لم يعد يقوى على المشي إلاّ برفقة أحدهم أصبح يصاحبه ابنه إلى الندوات و الجامعات و إلى مواعيده التّلفازيّة. ثمّ في آخر أيّامه صار لا يُستضاف إلاّ في الأخبار المسائيّة، هناك و بنبرة مرتعشة توجّه بكلمة إلى شرفاء العالم تحدّث فيها عن ابتسامته السّاحرة التي ابتسمها عندما كان صبيّا في العاشرة و ناشد الضّمائر الحيّة أن تساعد ابنه على مواصلة المسيرة التي بدأها و أخبرهم بضرورة انتقال الابتسامة إلى ابنه كي لا يضيع إرث إنسانيّ بهذه الحساسيّة.

مات طفلُ العالم فأٌقيمت له جنازة مهيبة رُفعت فيها لافتات تحمل صورا له و هو يبتسم. خلال التّأبين قال الابن بصفته الوريث الشّرعيّ لوالده إنّه طفل العالم الجديد و حدّث النّاس لآخر مرّة عن ابتسامة أبيه الأولى التي ابتسمها يوما عندما كان صبيّا في العاشرة و ابتسم لهم واحدة تشبه ابتسامة أبيه فأعجبتهم كثيرا و صفّقوا له بتأثّر شديد و طفرت الدّموع من عيون بعضهم. و ابتسم والده للأموات تحت الأرض الابتسامة المُتحلّلة الأولى، فخرجت ميّتة مكتظة بالدّود. رغم ذلك سحرتهم و أنعشت عظامهم ففسحوا له حيّزا مريحا ليحدّثهم عنها ففعل، و ابتسمها لهم ثانية نزولا عند رغبتهم، و لم يشعر يوما طوال إقامته بينهم أنّه في حاجة إلى الجريمة الوحيدة المُتبقّية في رصيده و كان بين الحين و الآخر يحدّثهم عن ابتسامته التي ابتسمها يوما عندما كان صبيّا عمره عشر سنوات، و كان في كلّ مرّة ينهي فيها كلامه يبتسمها لهم مغمورا بالرّحابة و الرّوعة التي تهبها الأماكن حيث العبقريّة تكون أقلّ صرامة.