(المركز التاسع)
ملامح ملوثة
الكاتبة/ هدى الغراوي (العراق):
لم يعد هناك ما يدفعني للبقاء معه، يرعبني وجودي وحدي في الليل، جنين
ينبض في أحشائي كأنه يريد أن يبعث الحياة في نفسي، كيف لي أن أواجههم بالحقيقة،
الأمل الوحيد كان التخلص منه...
صعدت سطح الدار في ساعة متأخرة من الليل، كنا نتبادل القبلات كالعادة،
الظلام يغطي خطايانا، وعدني بالزواج خلال أسبوع واحد، كل شيء يمضي خاطفا أمامي:
الحقيقة، كبريائي، ثيابي التي نزعها شيئا فشيء، ٱستسلمت له و هو يلهث، وحش مفترس
لكنه أقسم لي بأنه لن يأكلني، ترك في جسدي آثار مخالبه، تملكني الخوف منه و هو
يزفر أنفاسه، لو كان بإمكانه نزع جلدي لفعل... عاطفتي تلاشت حينما أخذ مني ما
يبتغيه، رغم أنني كنت أرغبه، اكتشفت أن المرأة لها القدرة بأن تقدس شيطانا، و تحاول
تبرير خطئها بدموعها بعدما تمارس معه الجنس، جمعت بين الكره و العشق طيلة أيام
شهدت لهاثنا معاً.
-------
كم هي مضحكة الأقدار حين أولد لقيطاً، مجهول الأب، كان أبليس يضحك
منهما بينما كنت ماء ينزل من صلب أبي، لا أدري أمقته أم أمقت أمي، أم أنه إبليس من
أراد ذلك... عار لفظته فتاة ليست متزوجة؛ لا أحد يريد وجود ذنب بشكل إنسان، نطفة
قذرة نشأت في لحظات الضياع و أنا الوحيد ضحية ذلك العشق، أحمل من يد لأخرى، وجوه
يكسوها الصمت و الغضب في آن واحد، الهواء، الجدران، الأنظار، الكل ينبذني، لا أعرف
لماذا كتبت لي الحياة، رغم أن أمي حاولت أن تقتلني، هي الآن فتحت لها طريقا اسمه
التوبة كي تصل به إلى الجنة الموعودة، بعد فعلتها تلك حين أنجبتني من شخص في زاوية
ما، خلف حديقة المنزل التي هي عبارة عن أكوام من الأغصان المتيبسة، و لأنه كان
ثملا تلك الليلة التي شهدت مكوثي في رحم أمي، خرج من الباب الخلفي الذي يحذو
الشارع ليكون لقمة سائغة لأحدى الشاحنات...
ٱجهشت بالبكاء و هي تقول لي:
-------
في الصباح لم نجد اي أثر سوى دماء رجل فض بكارتي بإرادتنا نحن الاثنين
لأحملك جنينا أخفيه عن أعين الناس، كي لا أرجم أو أدعى زانية بقيت سراً لا يعرفه إلا
الله، و الشيطان الذي يشهد نزولك في رحمي، أما أبوك فقد ذهب إلى حيث لا أعلم، هل
أن الله انتقم منه في حينها، ربما... و ربما ٱكتفى بذنب واحد فقط لأكمل أنا طريقي
في حضيض آخر...
مضى شهر و نصف كنت أريد قتلك و إسقاطك، لكن لم أفعل، أحببتك كأم عاقر
تقضي وقتها بالأحلام، أمسح على بطني برفق أتذكر تلك اللحظات التي نشأت بها، و أبكي،
أبكي، أضرب بطني، أغرس أظفاري بها، ثم أحتضنك.
تناولت حبوباً مخدرة كي أنسى أنك في بطني، و مرارا أردتك أن تموت لكن
لا جدوى، في تلك الظهيرة بينما كنت أنشر الغسيل على سطح الدار، لمحته و هو يعبر
الحائط ليأخذ حمامته الجريحة خلف خزان المياه..
-------
على سطح الدار كانت تلتقي معه، كأنني كنت شاهداً على كل ما حدث
بينهما، بثوبها المبلل عمداً تتذرع بنشر الغسيل في وقت الظهيرة لتلتقي به هناك،
تفعل كما كانت مع أبي، تزوجها في ليلة تعمدت فيها أمي أن تكون تحت الظلام كي لا
يشك في أمر بكارتها...
كنت أبكي كما أبكي الآن، حين ادعتني له كنت حينها قد بلغت شهرين؛
وعدها بالزواج خلال أيام معدودة لكن قدري التعيس أراد له أن يُفقد في أول يوم سقطت
فيه بغداد، لا تعلم أمي مصير أبي المزيف إلى الآن، هل فقد حقاً أم أنه هرب، ليمارس
رذيلته على سطح آخر...
انفضح أمر أمي أو بالأحرى انفضح أمري و أنا في شهري السادس، كانت المستشفيات
معطلة آنذاك، الفوضى تعم المكان، أسمع الركلات تلو الأخرى صراخ شتائم...
ــ عاهرة من أين جئت به...؟!
------
انطوت كل الحكاية و أكاذيبي على جدك عندما أخبرته أن ضياء ابن جارنا
صاحب الطيور الذي تقدم لي سابقاً و رفضت أنت أن تزوجني منه، هو من قدم بهذا الفعل
بعد أن هددني بقتلك...
لم أكن على علاقة به قبل ذلك، لكن جدك يكن له العداء لأنه يتلصص على
بنات الجيران، سمعته السيئة في الحي لم تترك له طريقاً ليوقع الفتيات في حبه...
غزارة دموعي و أنا أنسج الحكايات حول ضياء و توسلاتي لجدك أن يذبحني و
يخلصني من هذه الحياة جعلته يعطف علي، بعدما علم أبو ضياء أنني أحمل في بطني
جنيناً يعود لابنهم المفقود، أتهمه الآخر أنه من اختطف ولده...
تسرب أمري إلى البيوت المجاورة، لم أخرج من البيت قط، انطوت الأيام
بين أقاويل و خوف و مشادات بين من أهل أبيك المزيف و بين أبي، أتمنى الموت و أحيانا
أتمنى أن تموت أنت... وحده أبوك تخلص من كل هذه المأساة.
في يوم ولادتك قتلوا والدي، ضربه أبو ضياء بمسدس كاتم ثأراً لولده.
--------
لقيط أو أبن الــ…… هكذا كانوا ينادونني، كتب على حائط الدار (مشبوه)
لم أفهم معنى هذه الكلمة لكني كنت أدرك أنها العار الذي التصق بي منذ نشأتي، كرهت
أن أكون بهذه الصورة في الشارع، في المدرسة، أو حتى أمام الله أنا أبن زنا... أمي تقتات على فضلات الناس، لم أرها تخرج من
البيت إلا للضرورة تغطي وجهها بنقاب، لكن ما الفائدة و كل العار كان قد مارسته في
البيت، ما الداعي أن يتحول بعدها إلى طريق يؤدي للجنة، ما فائدة بكائها إلى الله و
أنا ما زلت إبن زنا، ما ذنبي أنا أن أعيش مشبوه، خطيئة، لقيط.
لماذا يا أمي؟! بضع كلمات كانت كفيلة أن تجعلني مثلكم، قليل من العفة
و العقل و الصبر كفيلة أن تجعلني نطفة لا ينبذها المجتمع و لا الدين و لا
الإنسانية.
بعد سماعي لهذه الحكاية من لسان أمي تتبعت خطوات أبي هنا في الحديقة
في هذه الزاوية بالضبط، حل الظلام خرجت من الباب الخلفي إلى الشارع، بعيداً عنها،
تركتها مع بيت شوّه وجودي... لا أدري ما الذي سأختار: مصير أبي، أم مصير ضياء الذي
ادعتني أمي له...