بقلم: عباس عجاج
البدري (العراق)
قال الراوي:
(... و قد بكت
السماء دما عبيطا, حين سقط فارس من صهوة الجواد مذبوحا من القفا, يشخص ببصره نحو
غد بعيد, و صدى صوته يشق عباب الزمان يصدح: "ألا من ناصر ينصرنا".
بالقرب، بينما
دماؤه تروي عطش النهر, و تشبع شبق التاريخ كان القوم سكارى, ثملوا، رقصوا، طربوا،
رفعوا الرؤوس على الرماح... سبوا النساء و رحلوا...
رحلوا كغربان
سود تتكاثر كالجراد يعيثون بالأرض فسادا على أمل نصر مزعوم).
حيث كان الحشد
حول الراوي يغسلون بدموعهم دَرَن َالخذلان, سمعوا صوتا مذهولا مرتعدا آت من قرب
النهر, يمزق الصمت: "النهر ينزف... النهر ينزف"؛ ركض الجميع نحوه,
يتبعهم الراوي غير مبال بينما صاحب الصوت المذهول يجوب المدينة راكضا بلا توقف.
طفق المذهول
يجوب المدينة, يطرق الأبواب, يصرخ بالوجوه كي يوقفوا نزيف النهر.
أهل المدينة
أصابتهم خيفة, أوصدوا الأبواب و النوافذ في وجه المذهول خشية أن يلج صوته داخل
الديار, الكل يشيح بوجهه و يولي فرارا...
امرأة عجوز قالت
بعد أن التفتت يمينا و شمالا: "لا حياة لمن تنادي يا ولدي".
قالتها و أدارت
ظهرها تضحك بهستيريا بعد أن غمزته بطرفها مشيرة إلى المسجد.
ـ المسجد؟!
ـ نعم؛ كيف نسيت
المسجد؟! فلابد أن الناس يقيمون الآن صلاة الخوف, و ربما الاستسقاء, فقد جدبت
الأرض منذ أن منعت السماء بركاتها قبل بضع سنين حين حط الغرباء هنا, قيل أنّ أحدهم
بصق في رافد النهر, فأجدبت الأرض مذ ذلك الحين؛ لقد انسلوا بين الناس كأفعى اندست
بين الأحراش نسمع فحيحها و لا نراها, و كانوا يتكاثرون كالجراد.
صوت المؤذن
يصدح: الله أكبر... الله أكبر
الله أكبر...
الله أكبر
الصلاة؟ نعم, لن
يوقف نزيف النهر سوى التضرع و الصلاة فلربما غضب السماء قد وقع على الأرض, نعم؛
علينا الاعتراف بذنوبنا و نسأل الله العفو.
يهرول ليلحق
بالصف الأول بالقرب من إمام الجماعة، يصل إلى المسجد؛ وجد الناس قد اصطفوا للصلاة
و أحدهم ينادي: "ساوا الصفوف رحمكم الله".
صرخ
المذهول "أي صفوف؟!, أي صلاة؟!
انظروا ما حل بكم! أيديكم تقطر دما, لقد توضأتم من ماء النهر النازف, وضوؤكم باطل,
صلاتكم باطلة, أي إله تعبدون؟".
بهت القوم،
الناس تتمتم، همهمة و جدل، أبصارهم تشخص نحو إمام الجماعة تستجدي شيء ما يضع
النقاط على الحروف و يقطع جدل القوم.
صاح الإمام:
"من هذا؟! بيننا مرتد؟"
( انسلت السيوف
تتسابق نحو رأس المذهول )
و عادوا إلى
الصلاة تقبع خلفهم إرَب َجسدٍ تيممت سيوفهم بدمه.
...........
عند النهر، صعق
الحشد حين رأوا النهر يرتدي ثوبا أحمر, على مد النظر امتزجت حمرة النهر بظلمة
داكنة حجبت أشعة الشمس لتضفي لونا كئيبا بغبرة اجتاحت المكان, و ترسم لوحة تخلو من
ملامح الحياة؛ صاح أحدهم: "النهر يلفظ الأجساد".
صاح آخر:
"النهر يتقيأ الأشلاء".
من وسط النهر
المنحني خجلا اشرأبت أعناق تملأ العيون بهاءً و ضياءً, على سجية قدرها تحاكي طقوس
الشهادة و نبوءة الولادة, كقناديل توغلت بأرواح زكية, تترصع صدورها بنياشين
الشهادة و منح الإله, مسافرة في طلاسم ملكوت قدسي؛ كوهج نداء يعانق بهجة روح,
بتراتيل يمتد صداها إلى الإنجيل, و التلمود,و الزبور؛
تشرئب كزهو
المنتصرين داحضة و ساوس الوهن, و رياح الأفول, و أبواق النفاق, حيث طفت الأجساد
على سطح النهر, تملأ المكان, جزعت العيش تحت الماء و خرجت تستنشق النفس الأخير.
................
زاغ الراوي
ببصره إلى حيث تساقطت هذا الصباح أسراب حمائم بيضاء, كانت في رحلة سلام تنشد
الأمان محلقة في سماء صافية, مغنية أنشودة الوطن طربا:
هل أراااك... هل
أراك؟... سالما منعما, و غانما مكرما؟
هل أراااك... في
عُلاك؟ تبلغ السمااك... تبلغ السمااااك؟
... دمعة عارية
تباغت الراوي على حين غفلة, منسلة وسط حزن لم يسعفه أن أشاح بوجهه عن الحشد حين
استذكر تلك الغيمة السوداء من الغربان تعتلتي السرب, تنعق بلا هواده, تزعزع أمان
السلام, و تمزق صفاء اللحن الجميل, تباغت الحمائم غيلة و غدرا, تزج مخالبها في
أعناق الحمائم الوديعة, و تقص جدائلها الفتية, منتشية بعذابها, تستفز منها مواطن
الألم, و تصمخ نشيدها بنغم مسخ, تنتشي بعبير الفاجعة, و تزهو بصلب الحمائم في
السماء كأنها نذور قرابين حان قطافها.
الفوضى تعم
المكان.
الحمائم ترفرف
بأجنحتها الصغيرة.
السماء تمطر دما
لتروي عطش النهر.
( مازال ذلك
الصدى في الأزل القديم يؤرق مضاجع الغربان, فتستشيط غيضا, و تشحذ مخالبها المسمومة
أينما وجد السلام و أينما كان الأمان ).
على الطرف الآخر
من النهر "أم جواد" تحتضن حفيدها الصغير تناغيه حيث تداعب شعره الناعم:
"دِلِلّوه... دِلِلِّوه... الولد نام... الولد نام... دِلِلّوه يالولد
يابني...", و حيث يغالبه النعاس مودعا أهزوجة الجدة بابتسامة بريئة ترتسم على
شفاه وردية حالما بلعبة العيد القريب يأتي بها أبوه فارشا ذراعيه ليضمه على صدره,
و يحمله على أكتافه, و يلعب معه بها, و يهرول إلى أصحابه ليفاخر أقرانه بهدية الأب
للعيد الجديد.
تنحنى الجدة على
جبين حفيدها تلثمه بقبلة دافئة تستذكر بها تلك القبلة قبل عامين حين دخل
"جواد" يمسك بيد عروسه, يحيط به أقرباؤه و أصدقاؤه يتغنون بأهازيج
العرس, تعلو شفتيه ابتسامة خجولة حين يدنو لرأسها مُقَبلا قُبلة الوفاء لسني
العطاء, تلك السنوات التي رافقته كل لحظاتها منذ صراخاته الأولى حين يفتح عينيه
لأول مرة, و حين تحمله على صدرها لترضعه, و حين تلبسه ملابس المدرسة في سنته
الأولى, حين يمرض, و حين يلعب, وحين... وحين...
و ها هو اليوم
ببدلة العرس البهية يحتضنها كما كان مذ كان طفلا صغيرا يقبل جبينها عرفانا و
إجلالا...
و بينما
"أم جواد" تداعب شعر صغيرها غلبتها غفوة, ما أن أغمضت عينيها, داهمتها
صورة "جواد" يعد حقيبته للرحيل, فعند الصباح سيلتحق بركب كوكبة الشباب
الذين نذروا أنفسهم لبناء وطن, حملوا على عاتقهم إشراقة شمس الصباح في وطن جديد,
وطن الحماة و البناة, وطن الحضارة و الأمجاد, وطن الكرامة و العيش الرغيد؛ تودعه
لدى الباب: ( الله وياك يمه؛ أنت الوطن يمه... ياشمعة عيوني, و ذخر شيباتي ).
... على شرفة
الدار بالقرب منها, شيء ما يسقط, يكسر غفوتها, يوجسها خيفه, تشعر بشيء يقبض قلبها
و يحرق صدرها؛ تهرول نحو الشرفة...
السماء تكتسي
حمرة تمتزج بغبرة خانقة, سموم يهب يحف المكان, يضمحل الهواء تغلبه رائحة نتنة,
تتوسط الشرفة حمامة بيضاء يطوِّق جيدها خضاب أحمر يقطر دما, و يرسم نهرا, أرخت
جناحيها على أرض الشرفة, و عينها شاخصة نحو طفل صغير يرقد بسلام، يحلم بلعبة
العيد.
..............
قال الراوي:
وقف حادي الركب
يحدي:
"أبكي
اللذين أذاقوني مودتهم حتى اذا أيقظوني للهوى رقدوا"
... الراوي
يغادر المدينة المنكوبة مسافرا إلى زمن جديد يحكي أن الفواجع تسري مدى الدهر
كسحابة كلما اختنقت عبراتها أجهشت بلا هوادة لتستمد الأمم منها وجدان العاطفة في
مقاومة الظلم مستلهمة الإباء و العزة من براكين الغضب لشلالات الدم المقدس للشهداء
و الثوار, فمهما قست قلوب العدا و مهما اشتدت سطوة الطغاة ستنبثق من لب الفاجعة
إرادة الحياة ترفض الذل و الهوان.
تلك الوجوه
المشرقات كأنها الأقمار تسبح في غدير دماء
رقدوا و مامرت
بهم سنة الكرى و غفـت جفونهـم بلا إغفـاء
خضبوا و ماشابوا
و كان خضابهم بدم من الأوداج لا الحناء
و مغسليـن و لا
ميـاه لهم سوى عبرات ثكلى حرة الأحشاء
أصواتها بحت فهن
نوائح يندبــن قتلاهـن بالإيماء.