في
الحمام رفقة الصالحي
بقلم: بوشتى بن طالب (المغرب)
أطلت
الشمس من عليائها، و بدا نورها باهتا محتشما وراء سحب بيضاء، تراكمت على الأفق، و كونت
لوحة لا تخلو من جاذبية، قلما جادت بها السماء في الأصباح الشتوية الباردة. كانت
الريح التي تهب من الشرق، ترسل كتلا باردة جافة، غالبا ما تكون مصدر تبرم الفلاحين
و تقززهم. لذلك أصبحت القرية يتيمة مقفرة، ربما لا زال أهلها مندسين في أرجوحات
النوم، أو محيطين بموائد الإفطار، قرب مواقد النار، يدفئون أجسادهم، و يرشفون كؤوس
القهوة، أو أقداح الحساء.
و مع
ذلك، أبى الصالحي إلا أن يتحدى الطبيعة، و يواجه جبروتها بقوة و عنفوان الشباب.
أحاط رأسه بقطعة ثوب أبيض، و لبس جلبابه الصوفي، و انتعل حذاءه البلاستيكي الطويل،
بعد أن ترك وجهه و شاربه حليقين، أضفيا عليه وسامة زائدة.
بيد
أنني، لم أضف على جسدي أي شيء، سوى ما كنت ألبسه من معطف ممزق، و حذاء نسوي أحمر،
انبجس منه قر بارد، جعله يسري في عروقي، كما يسري السم في الجسد. حينها أخذني من
معصمي، و دعاني لمرافقته للمدينة.
كانت
المسالك لا تزال تحتفظ برطوبتها من جراء الأمطار التي هطلت على القرية في الآونة
الأخيرة، مما جعل حوافر البهائم و النعاج، و كذا أقدام القرويين، تترك أثرها، على
الطين المبلل، تماما، كما تفعل الأختام على الأوراق.
الأكاليل
و غابات الصنوبر و البلوط في الواجهة الجنوبية للقرية، تبدو مغسولة نظيفة، تشرئب
بأعناقها إلى السماء، تعانق الضباب الكثيف الذي جثم عليها، و اخترق أغصانها بدون
استئذان، فأضفى عليها، مسحة من الوحشة و القتامة القاتلتين.
فيم قمم
الجبال، بدت و كأنها شيخ وقور تلفع بعمامة بيضاء، صارت تلمع مثل سبائك فضية، ترسل
من حين لآخر نورا وهاجا، كلما لامستها أشعة الشمس، التي تبزغ تارة و تتوارى تارة
أخرى.
"لا هدنة مع الطبيعة "'يقول ألصالحي، و هو
يمشي بخطى حثيثة. "ها هو التجهم يعود للسماء مرة أخرى، و إذا ما هبت الرياح
الغربية، فستغرقنا أمطارا."
لم أعقب
على كلامه، بل أمسكته من تلابيب جلبابه، و سرت أجرجر خطواتي وراءه.
"الصالحي،
ياصالحي"، تناديه عرجاء من الجهة اليمنى من بيت قصديري بدوار "الجيارين".
"صباح
الخير، أإلى المدينة و كالعادة؟"
"صباحك أخير، ياسيدة الكون." يرد الصالحي، و قد
علا الألق وجهه، و افتر ثغره بابتسامة عريضة.
تبادلا
الغمزات و الهمسات، و صار الصالحي، يتحسس مناطقه الشبقية.
"ويلي، الولد معنا، أحشم." ترد العرجاء ذات
الرموش الطويلة، و كأنهما جناحا غراب.
ودعها الصالحي
بقبلة حارة، و ضرب لها موعدا لاحقا.
كانت
أسراب طيور "السنونو" تحلق أمامنا تشدها قوتها إلى أسفل، فكنت أركض
وراءها ظنا مني أنها سهلة المنال، لكنها سرعان ما تنطلق تاركة وراءها حقولا فسيحة
من الريش الناعم، كشظايا زجاج ملون.
هو وقت
هجرة طيور "السنونو" يقول الصالحي و عما قريب سترحل، و تحل محلها
اللقالق، إيذانا بدخول فصل الربيع."
غير بعيد
عن باب القبور، المدخل الرئيسي للمدينة جنوبا، كانت الشوارع باردة مهجورة، و جدران
المباني مغسولة، بينما مفاصل العروق الخشبية، بدت منتفخة بماء المطر، أما الأشخاص ـ
على قلتهم ـ بدأوا يتقاطرون من هنا و هناك. مقهى العباس وحدها، كانت حية نابضة
بأغاني "الشيخة الريميتي" "وحادة وعكي المتهتكة".
و ما هي
إلا هنيهة، حتى اندلفنا عبر أدراج واسعة مرصعة بالزليج البلدي النفيس، إلى بهو
واسع، خصص لراحة المستحمين و استرخائهم.
"زد، ادخل، هيا، نحن في الحمام. لا تخف. سوف تشعر
بالراحة، بعد الاستحمام".يقول الصالحي و هو يحثني على الدخول.
عالم
غريب اكتشفه لأول مرة، أجسادا عارية من كل الأعمار. منهم المسترخي أرضا، فوق أفرشة
منفوشة، يستعيد قوته. و منهم الواقف في المحراب للصلاة، و منهم الجالس على كرسي
خشبي، يرشف كؤوس الشاي المتشبعة برائحة النعناع، و منهم من جمع لوازمه، و استعد
للمغادرة. و منهم من انزوى جانبا، يتجاذب أطراف الحديث مع أصدقائه. و منهم الغني و
الفقير. حياة اجتماعية مصغرة، بكل تفاصيلها و جزئياتها.
لكم
انجذبت لسحرية المكان و جماليته. هدوء وطمأنينة لا مثيل لهما. أرض متدفقة بشلالات
الفسيفساء، و هلوسة الزرابي المبثوثة، مرايا طويلة و لامعة، كلمعان الثريا
المتدلاة من وسط البهو. طنين هادئ لساعة أثرية، وحده يكسر الصمت المهيمن على
الفضاء.
حبست
أنفاسي، و أنا أتابع عن كثب، ما يجري في القاعة، و أتابع باندهاش، حركات و أوضاع
المستحمين؛ شباب يقفون متسمرين أمام المرايا، يجتهدون في وضع اللمسات الأخيرة
لتسريحة شعرهم الناعم. يلبسون أجمل الألبسة و أنقاها، تنبعث منها رائحة عطر زكية،
تعطر المكان. يلفون رؤوسهم في فوطات قطنية، تجنبا للفحات القر في الخارج.
أما
الأعيان، فتشملهم عناية خاصة، من قبل أولائك الذين داعبوا أجسادهم داخل الحمام،
مداعبة لطيفة. فيساعدونهم في الحفاظ على توازنهم، و استرجاع طاقتهم، بعد آن خرجوا
يلهثون من شدة الحرارة. كانت أثر النعمة بادية عليهم؛ بطون منتفخة، و صدور
معشوشبة، و عضلات مكتنزة. يلفون أجسادهم في فوطات مطرزة، لا يمتلكها عامة الناس.
"هيا.
قم لنستحم. أنسيت نفسك؟، اخلع ملابسك و علقها على المشجب." يقول الصالحي في
تودد.
"ملابس؟ أية ملابس" اردد في صمت، و أنا مجروح
النفس.
كان
الضباب الكثيف ينبعث من مدخل قاعات الاستحمام، بينما مسيلات الماء، لا تكف عن
الجريان على الحيطان و من السقف، بعد عملية البرودة. أما رائحة الشمبوان و الصابون،
التي عطرتا الفضاء، سرعان ما غزت خياشيمي، و سريتا في جسدي، كما يسري الهواء النقي
في رئتاي. في الوقت الذي كنت اجتر كلمات متقطعة و متتالية. "صابون"،
"شامبوان" "فوطات"، "كياس"، "ألبسة نظيفة و جديدة".
هو حلم ليس إلا، أليس من حقي أن أحلم؟!.
أحسست
بدفء يسري في جسدي، و تمنيت أن أسكن في الحمام، على أن أرجع للكوخ، خصوصا، عندما
وضعني الصالحي ممتدا أمامه، و صار يحك جلدي الطري. لكن، سرعان ما أحسست بغثيان من
شدة الحرارة. كاد أن يخنقني. على إثره، أفرغ الصالحي على جسدي، ماءا دافئا، بعث في
نفسي قليلا من الحيوية و الدفء. ثم أخرجني فوق راحتيه إلى باحة الاسترخاء. في
انتظار إنهاءه عملية الاستحمام.
كانت
الساعة قد أشارت عقاربها إلى الثالثة زوالا، يوم 5 دجنبر من سنة 1965، حين تركنا
المدينة خلفنا ملفوفة في صمت المساء.
هبت ريح
غليظة معتمة، صاحبتها أمطار غزيرة. اشتدت حدتها، وغدت جارحة، مثلما غلالة تلف
القلب، صاحبها تيار بارد يهب من جبل "تومزيت " يجعل الأسنان ترتجف و تصطك
في الفم، كما يحدث ذلك من أثر الحمى. كان الرجال يهرعون إلى منازلهم، و هم يضعون
يدا على قبعاتهم، و يمسكون بالأخرى مناديلهم، تقي أنفسهم من الرياح العاتية.
عض الصالحي
على شفته السفلى، كما لو كان يحس انفجارا ما، يوشك على الوقوع. بينما غمرني حزن
فجائي، نزل على صدري، فأحسست بالانقباض. و وجدتني أستعد للذي يأتي و قد لا يأتي. كانت
الزخات تصلنا تباعا، تقذفنا العاصفة يمنة و يسرة، تجعلنا متساقطين على مناكبنا،
أما التربة، فقد استحالت إلى مادة لزجة معتمة، تحاكي الصابون الرخيص. حيث صارت
أقدامنا تنزلق فيها، وغدا المشي غير ممكن. بينما برك الماء قد انتشرت بشكل عشوائي،
على طول امتداد المسالك. و كنت كلما حاولت تجاوز واحدة، إلا و أقع في الأخرى،
فيتطاير الماء من حولي، يزيدني بللا من أخمص قدماي ،حتى منبت شعري .
أحس الصالحي،
بأن التعب قد أخذ مني مأخذه. حينما خارت قواي و توقفت عن المشي مترنحا، أبحث عن
ذاتي. فسقطت من عيناي دمعتان ثقيلتان، أحدثتا اضطرابا كبيرا في البركة أمامي.
حملني فوق أكتافه، و جعل أقدامي تتدلى على صدره، عندها كانت أثوابي الرثة، قد
تشبعت بللا، و التصقت بجسدي، و صارت تصب الماء، كالصنبور في جسده عبر عنقه.
"ياله من يوم نحس". ردد الصالحي بصوت منكسر.
كانت
القتامة تحيط بنا، و الزخات تتواصل بشكل عنيف، بينما عاصفة ثلجية بدأت طلائعها
تصلنا، عبر ندف بيضاء، كندف الصوف، أضفت على القرية لمسة خاصة و كأنها عروس تتأهب
للزفاف.بينما نور القنديل الطيني الباهت، تراءى لنا لامعا، في أحد أبراج الكوخ.
ارتمت
علي والدتي في حنان و صاحت. مزمجرة في وجه الصالحي ".واش هذا النهار دا
الحمام أويلي واندبتو، أبغيت تقتل لي ولدي؟".