(المركز الثاني)
ثورة
بائع الريح
الكاتب/ الصديق ابريك سليمان بودوارة (ليبيا)
لم يكن عادياً
ذلك اليوم، عندما توفى "مراجع بائع الريح" و عندما اكتملت إجراءات تجهيزه
للدفن رفض أن يذهب إلى المقبرة.
ساد الهرج و المرج،
و اجتمعت "أم الجراد" بشيبها و شبابها في مليونية حاشدة لم يتجاوز عدد
أفرادها الثلاثمئة، هم كل رجال البلدة، أما النساء فاكتفين بمراقبة الحدث من وراء
شقوق نوافذ بيوتهن العتيقة.
ـــ عليك أن ترضخ
لسلطة الأمر الواقع، يجب أن تذهب معنا إلى المقبرة يا بائع الريح.
كان مختارنا
المهيب يتحدث إلى المتوفي المشاغب، و رذاذ فمه المبارك يتطاير ليقع برداً و سلاماً
على قماش الكفن الأبيض الناصع، لكن الميت كان يرى الأمر من زاوية مختلفة:
ـــ عليكم
اللعنة، و أنت بالذات، عليك ألف لعنة، لم أعد من الأحياء كي أخافك و أخشى سطوتك،
أنا الآن ميت، هل سمعتني يا برميل القمامة الذي عشنا ألف سنة نسميه مختارنا
المهيب؟.
كان صوت الميت
واضحاً جهورياً، و كانت معانيه صادمة للجميع، و فجأة لمعت عيون سكان البلدة بوميضٍ
لم يسبق لهم أن عاينوه من قبل، و اقتربوا أكثر من النعش و هم يستمعون باهتمام إلى
الجثة "المندسة" حسب تعبير المختار:
ـــ نعم ، أنا
أعني ما أقول، ما الذي يجبرني على الذهاب إلى المقبرة ليدعو لي لص مثلك؟ لن أقبل
أن أركض على الصراط مصحوباً بصوتك البشع و مفرداتك الميتة، كنت مجبراً على الطاعة
عندما كنت من الأحياء، و لكن، لماذا استمر في الخنوع لك و قد أصبحت جثةً لا تقع
تحت طائلة حكمك المقزز؟.
لن أذهب إلى
المقبرة، أريد أن أتعفن في داري و يأكلني الدود، هذه جثتي و أنا حر في ما أصنعه
بها، أريد أن أمارس حريتي للمرة الأولى يا برميل القمامة.
انصرف الجميع
مذهولين برهبة المعجزة، لكن صباح اليوم التالي شهد حدثاً فريداً من نوعه لم تشهده
"أم الجراد" منذ ملايين السنين، لقد كانت ساحة البلدة تغص بالجثث في
أكفانها البيض، رجالاً و نساء، و كان الجميع يرفضون بإصرار أن يدفنهم المختار و أن
يدعو لهم، مطلقين ألسنتهم الميتة بأقذع أصناف السباب في وجه "برميل
القمامة"، ذلك الذي كنا ندعوه سابقاً بمختارنا المهيب.