(المركز الثامن)
حصار
الكاتبة/ ربا عادل هابيل (سوريا):
أطبق الحصار فكّيه علينا منذ أكثر من سنتين،
لا يهم؛ فلا فائدة تُرجى من الزمن عندما يكون المكان في مخاض عسير، قد يتعسر لدرجة
أنه قد يُولد ميتاً.
كنت قبل الحصار أكافح كي أؤمن لقمة العيش
لأطفالي الخمسة؛ فأفواههم كمناقير أفراخ صغيرة لا تنغلق إلا حين ينامون. هكذا كنت أرى أفواههم من شدة بؤسي و فاقتي، مع
هذا الكفاح المرير استطعت أن أسدّ حاجتَهم إلى الغذاء من حليب و غيره مما يحتاجه
الأطفال لبناء أجسامهم، و حاجتَهم لثيابٍ تقيهم برد الشتاء وقيظ الصيف!
أشعر دوماً و أنا بهذه الظروف أني
مُحاصرٌ. فقر مدقع لا أستطيع معه
الاستمتاع بحياتي، و لا حتى بأبسط الأمور؛ فأي متعة مهما كانت تافهة هي تبذير و
إسراف بالنسبة لي!
و أنا أدعو ساخطاً على من كان سبب البؤس الذي
أنا فيه، إلى أن تبدل نوع الحصار. طوقتنا البنادق من كلّ صوب و أطبق الخناق حول
مدينتنا الصغيرة، لا أعرف ما نوع هذا الشعور الذي اعتراني حين بدأت الأمور تسوء
بسبب هذا التطويق المباغت. شعرت أني شامت
من كلّ المسؤولين و الميسورين في المدينة فقد كنت على يقين أنهم سبب محاصرتي
بالفقر. ارتحت و قلت في نفسي الحمد لله
الآن سوف نعيش سواسيّة، الآن سوف يشعر هؤلاء المستغلون ما معنى أن تعيش محروماً.
أقفرت المدينة من أية مؤونة و أقفر قلبي من
أية رحمة... تغيّرت ماهية الناس أو ربما ظهرت على حقيقتها. كان كل اهتمامي ينصرف
إلى التفكير بأصحاب الأموال و السلطة و كيف أنهم لن يقدروا على تأمين قوت يومهم؛ و
كيف ستضمر أحلامهم لتصير عبارة عن قطعة
خبز صغيرة. فكرّت فيهم و نسيت أني مُحاصر
أنا الآخر. نسيت أن أفكر في نفسي و أسرتي
و إلى أيّ مآل سوف نؤول إليه في أتون هذا الجحيم الذي يزداد سعيره يوما بعد
يوم: الأسعار ارتفعت أكثر من مئة ضعف لكل
سلعة، حتى أصبح ثمن الكيلو غرام من السكر يعادل عمل شهر في أيام الحصار القديم
الرقيق، إلاّ أنّ عجبي الكبير كان كيف تدخل هذه السلع المدينة، و ما الآلية التي يُدخِلونها حتى تصل
إلينا من المناطق الآمنة بهذا الغلاء! و أن شماتتي لم تكن في مكانها فأنا و أمثالي
ازددنا فقراً و الأغنياء انفجرت جيوبهم بالمال.
بدأت أرى عظام أطفالي تبرز و محاجر أعينهم
تتجوّر كأنها الحفر! باتت أعينهم تبدو و كأنها كرات ناتئة لا تستطيع الحراك. صرنا مشاعاً للأوبئة التي جعلت - إضافة إلى الجوع - كل الوجوه صفراء
شاحبة كأنّها وجوه موتى! لا تزال صورة طفلي الصغير ذو الثلاث سنوات ماثلة أمام
عينيّ لا تغادر مخيلتي و لا واقعي. و لا تزال
أنّاته المنبعثة من براءته تدفعني للقضاء على كل من حولي و على الأخص هذه العلقات
التي تمتص غذاءنا وحصصنا التموينية التي تدخلها المنظمات الإنسانية. طفلي ذو
الثلاث سنين مات! لم يمت بطلق ناري أو بسقف
هبط عليه! لقد مات ميتة بطيئة من الجوع الذي نهش جسمه الصغير. كان آخر شيء تفوّه به لسانه الغض و هو يئن:
والدي أشتم رائحة الخبز... أشتهي أن آكل و لو لقمة خبز! مات و نفسه تتوق للخبز. كان يختلف عن الأطفال
الآخرين الذين يشتهون الحلوى... طفلي لم يعرفها أبدا: الحمد لله أنه لم يعرفها!.
تمنيت لو أعرف غريمي كي أثأر لإبني! اندفعت أبحث و أتقصى عن سبب ازدياد غنى البعض
على حساب الكثير من العائلات. اكتشفت أن
المسؤولين في المدينة قد وقّعوا اتفاقيات تجارية مع التجار لدى الطرف المناوئ لا
تسمح لهم بإدخال أي مادة إلا بدفع رسوم باهظة الثمن. كنا نظن بسذاجتنا أنهم يحاربونهم، هذه
الاتفاقية أُجبر عليها التجار و المزارعون في الريف المحيط بنا، لأن مدينتا كانت
المكان الوحيد الذي يستطيعون فيه تسويق منتجاتهم. كانوا أكثر من غريم و كنت أضعف
من أن أرفع وجهي في وجه أحدهم. أغلقت فمي و كظمت قهري و أنا أراقب تساقط أطفالي
واحدا تلو الآخر.