انعكاس المرارة
بقلم: هناء
عبدالدايم حسن الششتاوى (مصر)
- أحدثت ثقباً
بطرف المرآة علّي أستطيع رؤية وجهي من الناحية الأخرى، حال قصر قامتي دون تحريك
مفاصلي في الهواء سعياً للمس ذلك السطح الزجاجى... لا بأس... سأجرب الوقوف على
منضدة مرتفعة، حينها أستطيع أن أحشر يدي كاملة، سأشق نافذة تضخ ضوء أكبر إلى ذلك
اللوح الأسود، أحتاج لرؤية ملامح وجهي، مذ ولدت و الجميع متفق على أن أنفي المدبب
و فتحة فمي الاسطوانية و مساحة وجهى المستديرة نسخة مكررة من أبي، أما عيني ذات
اللون الرمادي فقد اختلفت الأقاويل فيهما، قسم يرجع فصيلتي إلى جدي لأبي و قسم آخر
ينسبها لابن عم خالة حفيد جدي الأصغر...
لكن ماذا لو
طالت يدي طبقا أو حلة في شقة الجيران أو أسقطت ساعة حائط أو لوحة جدارية بتصميم
باهت، ماذا لو طلبت تلك السمينة مقعرة الجوانب تعويضاً، من أين لى به...؟!
ليس لدي سوى ذلك
السرير كلما استلقيت عليه سقط لوح خشبي حتى اضطررت إلى بيع ألواحه مكتفياً ب(
الملة )... ربما عليَّ التضحية بها هس أيضاً... و ربما طلبت تعويضاً أكبر؛
القوانين هنا صارمة و لا تهاون، سأجلد ألف جلدة و لا تهاون...
لا... لن يحدث
أبداً، حتى لو اضطررت لبيع كليتي؛ بثمنها أستطيع شراء الحائط بأكمله، سأحفر
تجويفاً أكبر يخترق أسطح الأبنية الملاصقة لحافة الأكسوسفير، و حتماً سيكون هناك
فائض مالي، سأشتري أنبوب أكسجين جديد، لم أذق رائحته منذ ثلاثة أشهر... منذ أن نفد
رصيد بطاقتى التموينية.
"صدع جبهته
براحة يديه"
ياللحظ... كيف
نسيت أن لديَّ كلية واحدة، التهم الأطباء الكلية الأخرى حينما أسرعت لإنقاذ أحد
أطفال الشوارع من حادث مروع لأتوبيس طائر...
حينها أسرعت تلك
الفاتنة – باهتمام زائد – و بطرقعة لبان فاقت سرعتها قوة مولد حراري 1500 فولت
بتجفيف حبات العرق المتساقطة على صدري، أزاحت الكم الأيمن بخفة يد متناهية، تحسست
بأناملها الناعمة شعيرات جلدي المنتصبة، لفت شريط الضغط جيداً، كبست ضاغط الهواء
مراراً، ثم ظهرت النتيجة المأساوية:
"وجهك
شاحب، و اصفرار بعينيك يتزايد، على ما يبدو... المرارة اتفقعت"
- لم أر فاتورة
من قبل؛ كم كانت منظمة و دقيقة، عبارات بآلوان زاهية تشرح الصدر:
"نرجو أن
تنال الخدمة إعجاب سيادتكم"
هههههه لم يقل
لي أحد سيادتكم منذ أن خط الشعر شارباً تحت أنفى.
رقم زوجي يتبعه
ثلاثة أصفار و حمامة سلام و مبعوث بنكى يطلب منكم سرعة التوجه لإتمام الإجراءات،
لابد من دفع الحساب؛ القوانين هنا صارمة و لا تهاون... رهنت كليتي و خرجت.
- توحد تأملي مع
قطرات دم مندفعة من شريان استقرت به شظية من لوح زجاجي، صكت أسناني في استياء
لتطوع السبابة في حك الجزء الخارجى غارساً إياه أكثر في اللحم بدلاً من إزالته،
علا صرير الأسنان تزامناً مع لذة ذبح الأصبع، كلما زاد الضغط كلما زادت شهوتي
لغرسه أكثر... رفعته إلى جوف الفم حيث القواطع الثائرة، تذوقت طعم الدم المالح، و
لم أكتفِ، علت أظافري للجدران تنهشها بصرخة مكتومة أبت الخروج؛ لا أريد لتلك
الطاقة أن تهدر، عليّ أن أستمتع أولاً...
خارت روحي؛
أسندت هيكلي إلى الحائط، تلصص الجسم الزجاجي من بين شفتاي إستعدادا للخروج، التقطه
بيدي، ما زال يحتفظ بلونه الأسود القاتم.
...........................................................................
- أحتاج أن أري
الضوء، منذ صدور قانون الأبنية الذي يقضي بالاكتفاء بكوة في سقف لا يفصله عن الأرض
سوى مترين، و بصيص انعكاس الضوء يخترق الأعمدة الحديدية ثلاث مرات على استحياء كل
دورة فلكية كاملة.
الليل يسبق
النهار و النهار يسبق الموت، نسمات الهواء الساخنة تودع مخزونها من ثاني أكسيد
الكربون في رئتي ثم ترحل على عجل؛ أتعجب، تعيش الفئران في جحور باطن الأرض؛ ما
الذي آتى بها للطابق التسعون بعد المئة؟!.
عشائر قبيلة
بأكملها أولمت حول بركة الدم، لا تهش الفئران فبعض روثها إن لم يجلب لك الحظ سينقى
رائحة الهواء...
- جميع من ماتوا
قبلي في تلك الحجرة يدينون للفئران بمضغ جلودهم و نتف أوردتهم قبل مرحلة الانفجار
الأخيرة، بعد التنظيف الجيد لآثار الجماجم و العظام، تحرق خمس خنفسات لكي تجلب لها
ساكنا جديدا.
- مرآة ماكرة
تراقب تحركاتي لحظة بلحظة، كحيزبون يسترق السمع لوقع زخات البول و تدوين عدد ما
سقط منها داخل مواسير الصرف الصحي، لذلك صنعت من الملاءة كرفان، الآن أستطيع نزع
أوعيتي السفلية دون خوف، و أن ألعن الحزب الحاكم دون خوف، و أن أتخيل أنني أمير
الأمراء أُسير جيوشاً من الإبل و النعاج بسوط واحد، و أدهس أصولكم المتوارثة من
نسل أول لص في التاريخ بشسع نعل واحد.
رفع حذاءه
شاهراً إياه كالسيف و صوته يعلو:
- سأسحقكم
جميعاً
"المرآة
تهتز"
أسرع بإلقاء
الحذاء من يده:
- "العفو
والسماح يا سادة، ما أنا إلا عبد أحمق... العفو و السماح"
أصوات رجرجة
الجدران تزداد، الحوائط تتراقص على سوست حلزونية.
يدور بعينيه في
كل إتجاه... يضرب على فخذيه:
- أين أذهب
الآن...؟ أين أذهب الآن...؟!
في المنتصف ركع
على ركبتيه، حلت أصابعه التسعة محل اللسان، و ربما التهمته القواطع جزعاً، فتحول
إلى قنفد مبتل...
- كـ... كيف
أجرؤ على الصراخ... كـ... كيف حللت ما حرمته القوانين الصارمة...؟!
العفو و
السماح... العفو و السماح
تخرج من خلف
المرآة يد تسقطها أرضاً
تظهر عينان
بارزتان تهمس في يأس:
- أبحث عن
ضوء... هل لديك ضوء...؟!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"انتهت"ــــــــــــــــــــــ