مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المشاركة رقم 8 (مارس 2016): رحمة

المشاركة رقم 8
رحمة

بقلم/ بسمة أباظة ـ الكويت
نظرت بعينيها السوداوين داخل البئر، و ظلت تردد اسمه (رحيم) و تنصت لصدى الصوت؛ تتخيل أنه يرد عليها. جلست تستند على البئر لتشاهد غروب الشمس كما اعتادا دوما، تحسست الرمال بجانبها و هي تغمض عينيها شعرت أن يديه تلامس كفها اشتمت رائحته، شعرت بأنفاسه؛ كم اشتاقت إليه!.
كانت هيئتها ـ و هي جالسة بجوار البئر ـ غريبة، امرأة ثكلى تعدت الخمسين، في جسد فتاة في العاشرة من عمرها، لم يكن الحال دوما هكذا، فهذا المكان منذ عامين فقط؛ كان يضج بالضحكات و الجري و اللعب و الفرحة، كم يمكن أن تغير حادثة في المرء و المكان...
-    رحمة تعالي إلى هنا حالا؛ لقد حل الظلام...
كان هذا هو صوت امها، الذي يخرجها من ذكرياتها و شرودها، و يخبرها أنه حان وقت الفراق؛ نظرت إلى السماء الحمراء بلون الدم، ها هي تجمع النقيضين معا الشمس و القمر، كما تجمع البئر كل يوم بينها و بينه، بين الحياة و الموت، نظرت داخل البئر مرة أخيره، لعلها ترى وجهه، لكن ذراع أمها التي تجذبها، كانت أقوى منها...
 أعدت الأم المائدة، و جلست رحمة بجوار والديها، يأكلون في صمت؛ كل منهم يفكر في عالمه الخاص، أخذت رحمة تلعب بالملعقة في طعامها، و لم تتناول منه شيئا، لاحظت أمها ذلك؛ صرخت فيها:
ـ طوال اليوم تجلسين بجوار البئر، ترفضين العودة للمنزل، ترفضين الذهاب للمدرسة، ترفضين اللعب مع أقرانك، ترفضين الجلوس و الكلام معنا، و الأن ترفضين الأكل أيضا، لقد ضقت ذرعا منك حقا، أتظنين أنك الوحيدة التي تتألم!...
هنا صرخ الأب:
ـ كفى لا أريد أن أسمع أي صوت؛ لقد أصبحت أكره هذا البيت و لا أطيق رؤيتكما أنتما الاثنتين...
ثم غادر المائدة غاضبا؛ نظرت رحمة لأمها نظرة غضب و تحدٍ، لا يمكن أن تخرج من فتاة في سنها أبدا، ثم غادرت المائدة هي الأخرى، عصف الغضب بالأم؛ فألقت بصحنها على الأرض ليتحطم...
توجهت رحمة لغرفتها و هي تمسح دموعها الهاربة رغما عنها، فمنذ الحادث و هي ترفض أن يراها أي شخص ضعيفة و تبكي... جلست في فراشها تفكر لمَّ ما زلت هنا؟! ها قد مر عامان بدون رحيم بجانبي، أشعر أن نصفي مفقود، كيف لا يفهم أبي و لا تشعر أمي؟!.
كل ما أتمناه رحيم, أريد أن أراه، أن أكون بجانبه؛ كم أكره نفسي لوجودي في هذه الدنيا بدونه...
نظرت إلى الفراش المجاور لفراشها الفارغ، تذكرته و هو يحاول أن يضايقها، يخطف منها أحدى قصصها، أو دمية تلعب بها...
أغمضت عينيها و حاولت أن تنام، افترسها نفس الكابوس، حيث كانت تلعب هي و رحيم بجوار البئر كعادتهم، و يركضان سويا، و يطاردان بعضهما، و ضحكاتهما تملأ الفضاء بهجة و سعادة، حينما اقترح رحيم أن يلعبا لعبة (القطة العمياء) ربط عين رحمة بقطعة قماش صغيرة، ظل ينادي عليها، و هي تحاول الإمساك به، اقترب من البئر، نادى عليها؛ فركضت نحوه لتقبض عليه، لكنها دفعته دون قصد منها؛ ليسقط في البئر، ظلت تنادي عليه كثيرا بلا فائدة، و عندما وصلت النجدة وجدوه ميتا...
 في السابعة صباحا استيقظت رحمة علي صوت رحيم يناديها: رحمة أنتظرك في مكاننا السري...
فتحت عينيها و ظلت تنظر حولها، قفزت من فراشها و ارتدت نعليها ثم ركضت بأقصى سرعة نحو البئر، كانت المسافة بين المنزل و البئر كبيرة فهي أكثر من ساعة سيرا على الأقدام، نظرت داخل البئر و المفاجأة أنها جافة، ليس بها نقطة مياه واحدة، فركت عينيها لعلها ما زالت تحلم، لكن لا هذا ليس بحلم؛ نظرت في ساعتها كانت تشير للثامنة، فجأة سمعت صوته، نعم إنه هو، إنه رحيم يناديني، ينادي اسمي، هو صوته، و ليس صدى صوتي:
-    رحمـــــــــــة
-     نعم يا حبيبي، نعم يا رحيم أنا هنا...
ظلت تنظر داخل البئر، و برغم أن ضوء الشمس قد سطع بالكامل، إلا أن البئر مظلمة أكثر من المعتاد، ظلت تميل أكثر و أكثر لتراه، فهو لا يزال يناديها، شعرت بيد تلمسها من داخل البئر، مالت أكثر لتتبين من يلمسها؛ سقطت!...
بدأت تفتح عينيها بصعوبة, كان الألم يجتاح جسدها، و الظلام يحيط بها من كل مكان، ظلت تتحسس جسدها؛ شعرت بعظام قدميها مكسورة، كما أن هناك دماء تسيل من رأسها؛ نظرت لأعلى لترى السماء، لكنها لم تستطع رؤيتها، كان الظلام لا نهاية له، حاولت أن تنادي علي أي شخص لينقذها لم تجد مجيبا، جرت قدميها حتي استندت على جدار البئر الرطبة، ظلت تفكر كيف جفت البئر في ليلة واحدة، أين ذهب كل الماء، الأهم من كل هذا؛ أين رحيم؟! لقد سمعت صوته في البئر!.
ظلت تفكر في كل هذه الأسئلة حتى أعياها الألم و العطش و الجوع، و غطت في النوم، استيقظت على شعور بعينين يراقبانها ظلت عدة دقائق حتى اعتادت عينيها الظلام، للحق كان هناك القليل من الضوء يبدو أن الشمس بدأت تسطع، نظرت حولها حتى رأته خيال ولد في العاشرة، مجرد خيال بلا جسد مادي بلا ملامح، وضع أمامها بعض الحليب و الخبز و الماء كان الجوع و العطش قد عصفا بها، وما أن انتهت من التهام الطعام، و نظرت حولها لتشكر هذا الخيال أو الولد، لكنه أختفى.
استردت بعض قوتها، حاولت ثانية أن تنادي لعل هناك من يسمعها و ينجدها، لكن بلا طائل، جلست تفكر في أمر هذا الخيال، هل هو شبح أم ملاك؟ أيمكن أن يكون هو رحيم؟ لماذا لم يتحدث معي؟، ألا زلت غاضبا مني يا رحيم؟ ألا تدري كم تعذبت منذ رحيلك؟، عقدت العزم: إذا أتى ثانية؛ سأتحدث معه.
 في الصباح التالي في تمام الثامنة صباحا ظهر الخيال ثانية، لكن رحمة كانت في انتظاره هذه المرة، كان الخيال يبدو أوضح عللت ذلك أن الطعام و الشراب زاداها قوة؛ فأصبحت ترى بشكل أفضل، نظرت عن كثب لم تسطع تحديد ملامحة، لكنها رأت ملابسة، كانت بيضاء بالكامل، حاولت أن تتحدث معه:
-      رحيم أهذا أنت؟
لكنه لم يجبها، و لا حتى ينظر إليها، وضع الطعام أمامها و أختفى، ظلا على هذا الوضع أربعة أيام، يأتي الخيال و يضع الطعام و الشراب أمامها و يرحل، لكن الخيال كل يوم يزداد قوة و وضوحا...
في اليوم الخامس و في نفس الموعد ـ الثامنة صباحا ـ ظهر الخيال، لكن ملامحة كانت واضحة هذه المرة؛ إنه رحيم بعينيه اللتين طالما اشتقت إليهما، الغريب أنه لم يختف بعد؛ وضع الطعام مثل كل يوم، و ظل معها؛ نظرت له رحمة طويلا حتى قررت أن تجرب الحديث معه:
-     رحيم أهذا أنت يا حبيبي؟
-     نعم إنه أنا يا رحمة، لقد اشتقت إليك، اشتقت لأمي و أبي...
-   أنا كذلك اشتقت لك بشدة يا رحيم، أنا أسفة للغاية أرجوك أن تسامحني، أنني لم أقصد دفعك داخل البئر...
-   أعلم يا حبيبتي لقد كان حادثا، لقد سامحتك، أتعلمين أنك سبب بقائي هنا لأنقذك، فحياتك ستكون ذات أهمية كبيرة و تأثير في العالم...
-    لكني لا أريد هذه الحياة أريد أن أظل هنا بجانبك للأبد...
-  إذا كنت تحبينني حقا؛ يجب أن تعديني أنك ستحاربين و ستعيشين حياتك...
-    أحبك أنت أخي، توأمي، و نصفي المفقود؛ بدونك لن أكتمل، أتعلم أني كنت آتي هنا كل يوم عند الغروب، و أنادي عليك، كنت أشعر دوما أنك هنا...
-    كنت أسمعك، لكنك كنت تأتين ساعة الاحتضار؛ فساعة الغروب هي ساعة احتضاري، لكن في الثامنة صباحا، مع بدء قوة الشمس في السماء؛ تأتي ساعة ميلادينا... أنسيتي!.
حينها أكون في أقوى حالاتي، إذا احتجتني يوما؛ ناديني في ساعة الميلاد، ميلاد الحياة و الشمس و الزمن...
يجب أن تعديني يا رحمة أنكِ ستظلين قوية، من أجلي و من أجل أبي و أمي، أنت توأمي، هذا يعني أنك تحملين جزء من روحي داخلك، دعيني أحيا من خلالك و أرى العالم و أنجح...
اختفى رحيم مع صوت اقتراب أحدهم، كانت عينا رحمة تغرقان بالدموع، نادت للنجدة، لم تمر سويعات قليلة إلا و كانت رحمة في الفراش، داخل المستشفى في حضن أمها...
أخذت أمها تقبلها و تحتضنها، لم تكن تصدق أنها ما زالت على قيد الحياة، رجتها أن تسامحها، كانت أمها تبكي و تحمد الله على نجاتها و عودتها لحضنها ثانية.
أخبرتها أنها ذهبت للبئر لمدة يومين متتاليين، تبحث عنها هناك و ظلت تنادي عليها؛ لم تصدق أنها لم ترها أو تسمع صوتها.
علمت رحمة أنها ظلت داخل البئر 7 أيام: يومان فاقدة للوعي، و خمسة كانت ترى فيهما رحيم... 
تعجب الجميع من بقاء رحمة كل هذه المدة حية داخل البئر و خروجها بحالة جيدة نسبيا بغض النظر عن الإصابات نتيجة السقوط.
لم تخبر رحمة أحد قط عن ما حدث داخل البئر، ظلت تزوره بين الحين و الأخر، و اليوم بعد مرور 25 عام على سقوطها في البئر؛ أتت رحمة في الثامنة صباحا  ـ موعدهما المقدس ـ لتزور رحيم قبل سفرها لإحدى الدول الأوروبية، حيث تم انتدابها للعمل بالسفارة المصرية هناك...
نظرت رحمة داخل البئر، و أخذت تردد اسم رحيم، أتى صدى الصوت من داخل البئر مرددا:
-     رحمــــــــة!...
(تمت)