مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

مجانينُ الحضارةِ... و أنا بقلم: محمد عدنان عيسى

مجانينُ الحضارةِ... و أنا
بقلم: محمد عدنان عيسى
جلست إلى مكتبي و أنا مشحونٌ طاقةً لكتابة قصة، و الأملُ يدفعني لإنجازها خلال شمعةٍ واحدةٍ، فالكهرباء صارت ضيفاً عابراً...
تذكرت حكايات جدّتي و جدي و والدي - رحمهم الله جميعاً - حين كنا نجلس حولهم بذهول نستمع لكل حرف و نتأوّه ، نفتح أفواهنا، و نمسك أيدينا، و نلملمُ أرجلنا، و نتكوّر، و نتطاول حسب إيقاع القصة، و كثيراً ما كنا نأوي لفُرُشنا، و لا نستطيع النوم، ( فنصّ نصيص ) بين لحظةٍ و أخرى سيقفز من النافذة ليُشاطَرنا الأَسرّة، و يستأثر بلُحفِنا و يتركُنا نهباً للبرد أيام الشتاء القارس، أو سيلتهم أنوفنا و آذاننا، و يسرقُ ملابسَنا أحذيتنا بسلّته التي لا تفارق ظهره المحدودب، فأطرد الفكرة التي تخيف الصغار من رأسي المثقل كشجرة الرمان...
ثم أعاود الكَرّة لأتذكر حكايات سندباد، و أبو زيد الهلالي، و العفاريت، و التي كانت مادةً دسمة تنهال على أسماعنا لتزرع في نفوسنا عدم التفكير بالبقاء خارج المنزل عند أذان المغرب، و عند غياب الشمس، أو تدفعنا لتغطية رؤوسنا باكراً بعد تناول العشاء مباشرةً، و الخلود لأحلام مخيفةٍ تارةً و أحلامٍ مرعبةٍ أحيانا...
أما قصص ليلى و الذئب، و الأقزام، و الخيول المجنحة، و العنقاء، و جبال النار و الثلج، و الحيتان، و مخلوقات مرصوفةِ الأعضاء بعناية فائقة تهدف من وراء كل أصبع و ظفر إلى بثّ الرهبة و الجزع في القلوب...
تركت ما كنت أعزم عليه، فقد مضت الشمعة سريعاً، و تناولت أخرى فالشمع ليس في صالحي هذه الليلة...
لماذا لا أكتب قصصاً عن الأزهار و الربيع، و الطيور التي تبني أعشاشها على أشجار المشمش و الزيتون، أو عن البيادر و الحصاد، و عن السهر تحت شجيرات الياسمين و الليمون و النارنج و الكبّاد...
أو حتى عن الأمطار و الثلوج، و عن راعي القرية، و مواسم الحصاد...
و التفتُ إلى المرآة المحاذية لمكتبي لألمح ابتسامةً غبيةً تنفرج بها شفتاي، فأبادر إلى الشمعة التي راحت تلفظ آخر أنفاسها...
ضاعت الشمعة الثانية و لم أخطّ حرفاً، حتماً طارت البَركة، شمعتان تذويان و الصفحة بيضاء، تبذير ما وراءه تبذير...
تذكرت أنني على موعدٍ غداً للقاءٍ عائلي هنا في بيت والدتي يجمع إخوتي وأخواتي، و لابد من التجهيز لما يسلي جيشاً من الأطفال، و أنا على اعتباري الأصغر و الطالب الجامعي المشبع بالحكايات و البرامج المسلية سأكون ( كركوز ) السهرة كي لا ينشغل الكبار بصراخ و لعب الصغار و حركاتهم غير المدروسة، و لا يقاس نجاح هذه السهرة إلا بانقضائها دون اقتتال أو تكسير لبعض الصحون و الكؤوس و المزهريات الفريدة...
لذلك سأوفر الشموع لهذا الغرض، و لن أشعل أُخرى...
قضيتُ سحابةَ نهار الخميس في تلبية الطلبات و الإعداد للقاء ليلة الجمعة المشهود، فكرت بمشاريع لإشغال الأولاد و البنات، فالكهرباء مقطوعة و لا تزورنا إلا لمماً، و الحديقة لن تكون قادرةً على استقبالنا، فالبرد شديد و ماطر...
لذلك سيكون البيت هو مسرح العمليات...
بدأ توافدُ الجميعِ، و مع حلول كل عائلة كان البيت يرتجّ و يزفر، و الصخب يعلو و يزداد...
بدأت نجوم الاستقبال تتنزل، لم تقصر الأخوات و زوجات الإخوة في تخفيف بعض أعبائي و أعباء الوالدة، و طُلب إليّ صراحةً بعد وقتٍ قصير من حفل الترحيب إشغالُ الصغار...
الشموع تنتشر هنا و هناك، ذوبانها السريع يقضّ مضجعي، على التلفاز و فوق المكتبة، و على طاولة الطعام و فوق الصحون و داخل الحمّام...
جمعتُ الصغارَ حولي، فهذا ثلاثُ سنوات و تلك عشرة، و ذاك المدلل خمس سنين، و تلك الأميرة سبعة...
- شوفوا ياولاد... راح أحكيلكون حكايات كتير حلوة، و محضرلكن شكولا و عصير و لُعب صغيرة، و أحسن واحد بيسمع الكلام فيه إلو هدية كبيرة شوفوها هنيك على الطاولة...
و راحت الأنظار إلى الطاولة بذهول...
من قائل:
- أنا عمو ما بحكي إلا بأدب و إذن...
إلى:
- خالو أنا ما بحش البنات من شعرهن...
ووووووو
تنزلت الرحمانيات على السعادين...
و بدأت القصص تنهال على الأسماع، و الملل، و الضّجر سيّدا الموقف، و عدمُ الاكتراث بادٍ ظاهر؛ لولا تلك العلبة الكبيرة فوق الطاولة...
حقائبهم الشخصية صبياناً و بنات مركونةٌ جانباً... فالكهرباء مقطوعة...!.
مضى الوقت بطيئاً وئيداً مملّاً للبعض استمعوا خلاله لقصص تراثية عن ( نص نصيص ) الذي لم يرعبهم، و لم يتكوّروا لقصص الجن، و العفاريت، و لا حتى أهوال الوحوش الخيالية، و الشخصيات الأسطورية المرعبة على وقع الرعد و البرق و صفير الرياح خارجاً...
و لكن الشكر كل الشكر لتلك العلبة الكرتونية المغلّفة هناك على الطاولة ، فقد كبحت جماحَ النفوس المتمردة ردحاً من الزمن...
فجأة... جاءت الكهرباء؛ فتطاير الجميع إلى حقائبهم، و تسابقوا إلى مقابس الكهرباء، و تناثرت الشواحن على المقابس، و لم يسلم مقبس الحمام...
و تعالت الأصوات للسيطرة على المقابس القريبة...
هدأ المكان و كأن طائفاً من السماء قد زاره فجأة، و صار القوم كأن على رؤوسهم الطير...
لم ينتظروا شحن أجهزتهم؛ بل بادروها بالتشغيل لحظة وضع المقابس، فقد صاروا ذوي دراية باستغلال الوقت...
طفتُ على الشموع لإطفائها في مواضعها، فلا يأمن انقطاع الكهرباء فجأةً عاقل...!.
تجولت على الأطفال الغائبين عن الوعي...
هذا يستعرض أنواع الأسلحة التي سيهاجم بها الوحوش الطائرة، و ذاك يذبح الحيوانات في الغابة بلا رحمة و لا شفقة، و تلك تسللت بين النجوم تصارع وحوش الفضاء المجنّحة للفوز بزهرةٍ على مشبك شعر يضاف لرصيدها الوهمي كلما أثخنتِ بالعدوّ الجراح...
إلى طفل آخر يسبحُ مع التماسيح و أسماكِ القرش في بحيرةِ الدماء الملعونة للوصول إلى زيادةِ الرصيد الوهميّ من السيوفِ اللامعة...

ذُهلت لهذا العالم المجنون، و أخذت علبةَ الكرتون المغلّفةِ بالورق الملوّن إلى غرفتي، و فتحتُ شريطَها الذهبيّ، و أعدتُ ترتيبَ قصصي في رفوفِ المكتبةِ بصمت...!.