ــــــــــــــــــــــــ
المركز
الثالث
سيدة روحي
بقلم/ محمد عصام عياشي (سوريا)
الظلام ُالمشبع برهبة الحذر والترقب يلف ليل
حلب الثكلى عندما كنت أتحسسُ الطريق َعائداً إلى منزلي مستضيئاً بنور شاشة هاتفي
المحمول الذي نفذت طاقته قبل بلوغي ناصية الشارع الذي أقطن فيه.... فسرتُ على هدي
حدْسي باتجاه المنزل...فجأة وجدت نفسي
أهوي على الرصيف متعثرا بشيءٍ صلبٍ على الأرض فطُرِحتُ على الأرض أصرخ من ألمٍ في
ركبتي فقد أُصيبت ...لم يكن من كائنٍ في الشارع يعينني ،... حاولت الزحف نحو خيال
سيارة تقف بقربي علي الرصيف علّي استعين بها على النهوض
اخترق السكون من حولي صوتُ إغلاق باب سيارةٍ
وصوتُ أقدامٍ متسارعةٍ نحوي ويد سيدة تمتد لتشبكني من تحت إبطي وبصوت ملاك حنون
ملؤهُ الشفقة قالت : هل أنت بخير؟ وهي تحاول رفعي بكل ماآتاها الله من عزم وقوة
..كنملةٍ تحاول رفع حبةٍ من قمح ..
حاولت ابتلاع آلامي وأنا أمسكك بيد طرف
السيارة التي أصبحت بقربها وهي ترفعني من الأخرى حتى انتصبت واقفا كاتماً آلامي..
وقلت
: أشكرك أنا بخير...
: انتظر سأحضر سيارتي لأقلك للمنزل ..
:أشكرك فمنزلي على بعد خطوات ،..
فماغادرتني حتى وصلت باب المنزل، و لم أكن أتبين
تفاصيل وجهها في الظلام لأن مصدر النور الوحيد كان مصباح ولاعةِ في يدها ..
لم أدع كلمة شكر في خاطري تليق بها وبلطفها
إلا وأسْمَعْتها..
وبصوت ملائكي ودعتني : الحمد لله على سلامتك
....
وغادرتني .
بقيت رقة ولطف هذه السيدة وصوتها ألوانا
رسمتُ بها في خاطري صورة ًلأجمل أنثى أحسست بجمال كل مافيها ولم تستوضح معالمها
عيني
مرت بضعة أسابيع شُفًيَتْ فيها قدمي وبقي طيف
ذكرى تلك السيدة يلازمني كلما أكون عائداً إلى بيتي ليلاً.. إلى أن حدث معي ليلةً
وأثناء خروجي من المسجد أنني وجدت حقيبة نسائية ملقاة بين الرصيف وإطار سيارتي
،أسرعت بحملها ودخلت أتفحصها داخل السيارة ...إنها تبدو حقيبة من الأنواع الباهظة
الثمن فتحتها لأبحث عن ما يرشدني لصاحبتها كان هناك مبالغ تبدو غير قليلة من القطع
الأجنبي والعملة السوريه... جواز سفر...أوراق تثبيت ملكية ...مفاتيح ...عطر..وهاتف
محمول من النوع المتطور
أشياء توحي بثراء صاحبة الحقيبة ...
سارعت بفتح الهاتف المحمول محاولاً البحث عن
رقمِ متكررِ في مدونتها
وإذ بالهاتف يرن ،..فتحت الاتصال وقلت :
السلام عليكم مَنْ معي؟
صوت ملؤه اللهفة والقلق ولكنه مفعم بالرقة
والأنوثة : أرجوك يا سيدي هل الحقيبة معك ،أرجوك اسمعني ولا تقفل الخط أنا لا أريد
شيئا من الحقيبة كل ما راق لك منها فهو لك ,,فقط أريد الأوراق وجواز السفر
والمفاتيح وشريحة الهاتف وهي أشياء لا تفيدك ،وحتى تكون في أمان ضع هذه الأشياء في
أي عنوان أو مكان معروف وسآتي لأخذها ...أسألك بالله أن لا تضرني و الله لن ينسَ
صنيعك.
كان
صوتها يرتجف وتحاول ابتلاع بكائها..
قلت : هلًا هدأتي وأسمعتني الصلاة على سيدنا
محمد
:
اللهم صل على محمد ..أنت موافق هه ؟
:
موافق ولكن ليس على طريقة عرضك
:
هل تريد مبلغ إضافي ما الذي يريحك ؟
:
يريحني أن تعطيني عنوانك لأوصل لك حقيبتك كاملة فهي أمانة الله عندي وهي أثقل على
نفسي من قلعة حلب
: الحمد لك ياربي ...أنت رجل رائع
وفي نهاية الحوار أصرت أن تحضر هي وتستلم
الحقيبة فحددت لها مكان وجودي أمام المسجد وأوصافي وأوصاف سيارتي .
ومرت دقائق وأنا أراقب القادم والغادي من
السيارات حتى اقتربت مني سيارة حديثة وما أن أصبحت بجانبي حتى أطلت برأسها من
نافذة السيارة سيدةٌ بوجه كأنه القمر،
وسألتني بدهشة عظيمة ونبرة توحي بمعرفة سابقة : أنتَ وجدتَ الحقيبة ؟!!!...ياالله
!! أماعرفتني؟!..
صوتها الرقيق استحضر الصورة المرسومة للسيدة
التي ساعدتني في ظلمة تلك الليلة...
صحت :لا غيرمعقول !! أأنت من ساعدني؟! يا
إلهي سبحانك! ...
تقدمت إليها وأمعنت النظر في هذا الملاك
وقلت: لم أتبين معالمك تلك الليلة أنا
الآن تيقنت أن مخيلتي لم تخُنًي في رسم صورة لك في وجداني ..تفضلي ياسيدتي
استلمي حقيبتك كما وجَدْتُها أرجو أن تكون كما أرَدْتِها أن تعود ..وبعفوية فتحت
الحقيبة وأخرجت مافيها من نقد وقدًمَتْهُ، قائلة: هذا حقك كما وعدتك ..
انتابني شعور بالانزعاج وبرفق ردَدْتُ
يدها...
:ألم يوحِ إليكِ تصرفي ومظهري أنني فوق مستوى
قبول مقابلٍ عن واجب أقوم به ،أنت أرقى من أن تُهيني أحداً يا سيدتي...
عضت على شفتها وأطرقت برأسها أرضاً
لبرهة ثم رفعت رأسها بدمعة أسف تنساب على
خدها وبعفويةٍ أمسكت بيدي قائلةً : أنا جداً آسفة وما قصدت أن أجرح كرامتك ،..معاذ الله إنما فرحتي بعودة الأوراق
الرسمية طار بي فرحاً مما أخرجني من غير قصدٍ عن حسن تصرفي فأنا أقيم في أمريكا وتعلمنا أن كل خدمة يجب أن يكون لها
مقابل...
: لا
عليك هل تقيمين في الولايات المتحدة؟
: نعم منذ أكثر من عشرين عاما نقيم أنا وإبني
سام في نيوجرسي بعد وفاة زوجي وأنا الآن في حلب أصفي ممتلكات زوجي وتقدمت بطلب
يد فتاة من حلب لإبني.. بناءً على رغبته..
وسبحان الله كدتُ أصاب بكارثةٍ بفقداني هذه الحقيبة خصوصاً في ظروف الحرب والفوضى
وأن الناس بحاجة إلى أي مبلغ كان ..أشكر الله أنه أكرمني بعودتها لي وبمعرفتي لشخص
كريم مثلك.
: العفوَ ياسيدتي فأنتِ كنتِ السباقة في نُبل
أخلاقكِ وأشكر الله لمعرفتي بسيدةٍ مثلك ...وأرجو أن تأذني لي بالإنصراف فالوقت قد
تأخر لتعودي إلى منزلك.
: أبداً لن أقبل قَبل أن أُهديك شيئا وإني
أستحلفك بالله أن تختار ما تحب فأنا أريد أن أهديك شيئاً تحبه وأتوسل إليك أن تخبرني بما تحب.
لاحت ببالي فكرة للتملص فليس من أخلاقي أن
أقبل مقابلاً عن واجب أخلاقي .
وبسبب ظروف الحرب في حلب فإنه من المتعذر
الحصول على أنواع معينة من الزهور
: حسنأ ياسيدتي ولكن بشرط إن لم تتمكني من
العثور على ماأحب نكتفي بأن يكون ماحصل ذكرى طيبة بيننا.
: قد قبلتُ، وسأجد طلبك مهما تعذر...
:
حسناً.. فأنا أعشق الياسمين البحري..
: إذا أقفل سيارتك ورافقني فأنا عرفت مكانأ
يبيع الزهور يوم خطبت لولدي
انطلقنا وتجاذبنا أحاديث زادت من معرفتنا
بظروفنا الشخصية، وحين وصلنا إلى محل الزهور طلبَتْ مني البقاء في السيارة حتى
لاتحرجني فهي التي ستدفع القيمة ...بقيت أراقبها وهي تدخل المحل الذي لم يكن يوحي
بأن فيه الكثير من الورود... شاهدتُ من خلال واجهة المحل ملامحَ البائع وحركة
شفتيهِ ما يوحي بأنه يعتذر، وبعد جدَّال، تناول سماعة الهاتف وتكلم ثم أغلق
السماعة وماهي إلا دقائق حتى حضر صبي وبيده عود من الياسمين البحري قام البائع
بتغليفه وتقديمه لها ولم يقبل منها مقابل .
حضرت إلي وبكل لطف قدمتها....
قالت: أقسمُ لك أنه العود الوحيد في حلب ولكن
فيه زنة حلب من تقديري لك.
كم عشقتُ الياسمين البحري ولكني للمرة الأولى
أمسكُ عوداً فيه جمال أزاهير الكون وغمرتني سعادة لم أعهدها في حياتي ...
أتم كتابة قصتي وأنا على شرفة منزلنا المطلة
على البحر في نيوجرسي وسيدة روحي تُعِدُّ ليَّ الفنجان الثاني من القهوة.