المشاركة رقم 17
فيلسوف يحتضر
بقلم/ حسين علي محمد الجدي
اليوم يعيش الرجل المشكك آخر لحظات عمره؛ لا وقت أصبح لتأملاته، بعد أن أمسى ممددا في فراشه، يحاول مقاومة نومته الأبدية، إنه لشيء مؤلم أن يكون حصاده من الحقائق ـ بعد هذا العمر المديد ـ صفرا؛ فقد غلبه طوال عمره مفهوم اجتماع النقيضين، كان يشك في كل شيء تقريبا، و عندما يقحم شكه في موضوع معين لا ينتهي إلى نتيجة، إذ يعقده بسلسلة طويلة من الشكوك لا يكاد يخرج من شك إلا و يدخل بشك آخر، هكذا وجد نفسه الآن مأسوفا على عقله الذي أفقده اليقين و الاعتقاد...
هو الآن يدرك أن العالم كله يريد الخلاص منه، و من شكوكه، كأنه سوسة تحاول النخر في عقائدهم، و هو يلفظ آخر أنفاسه؛ يشغل باله موضوع من الضروري أن يتوصل إليه، و هو يرى أنه بالغ الأثر في حياته القادمة التي لا يعلم منها سوى أنه سيتلقى فيها جزاءه أو عقابه على أعماله، إما بالنعيم المقيم أو العذاب الأليم. هو على العموم رجل لا بأس به يرى نفسه محبا للخير، مبغضا للشر، لكنه يعتبر هذا وحده لا يضمن له بشكل محتوم نعيم الجنة. إن خيريته مجبول عليها، و لم يفعل سوى أنه حافظ على تلك الفطرة ليس إلا، بينما الكثيرون لم يولوها اهتماما. دار في ذهنه أن الذي يحتم دخول الجنة أو النار هو الاعتقاد بكل بساطة؛ رأى أنه لابد أن يعتقد بعقيدة يضمن بها الفردوس، لكنه لا يزال متذبذب الاعتقاد، حتى و هو يحتضر، و يمثل الاختيار بين العقائد بالنسبة له الآن؛ أمرا في غاية الصعوبة لكثرة الأديان و المذاهب الذي يعرفها، و لأن الوقت لا يسعفه. و بسبب ارتباك فكره تمنى لو لم تخلق جهنم.
كان الاحتضار بالنسبة له فرصة إضافية للتفكير اليقيني، بعيدا عما اعتاده من شكوك، كان بمستطاع الموت أن يأتيه فجأة كرصاصة تخترق العقل، و ينقله إلى عذابه الأخروي شأن غيره من عديمي العقيدة.
فجأة جاءه صوت مبهم "استعد لقد اقترب رحيلك" فزع، سمع الصوت يقترب منه كفحيح أفعى، لم يتمكن من تحديد مصدر الصوت؛ تمنى لو استطاع معرفة ذلك المصدر ليطلب منه بعض الساعات الإضافية ليحل بها مشكلته العقائدية، فلابد له من الإيمان بعقيدة تضمن له الفردوس. إنه مرهق أيما إرهاق و وجل حيث سيشهد روحه و هي تنفصل عن جسده، هذا العذاب القسري الذي ربما تخفف من شدته الالتزام بعقيدة يقينية، شعر و كأنه في امتحان حاسم و يجب الإسراع قبل انتهاء الوقت، وضعه لا يسمح له بتفكير متأن، كما أن معدل تفكيره قد تضاءل بشكل كبير، فضلا عن الخوف الذي يكتنفه إزاء الحياة الأخرى، التي سيقبل عليها...
إنّ أسرع حل يملكه الآن لمشكلته هو استخدامه المنطق الأرسطي الذي يقتضي الإتيان بمقدمة كبرى و أخرى صغرى، ثم استخلاص النتيجة منهما، إنها عملية في منتهى السهولة ليعرف أي من العقائد صحيحة و أي منها على خاطئة. لقد استخدمه من قبل لنفس المشكلة لكنه يستخدمه مرة أخرى مضطرا لعله ينقذه في النهاية، لكن هذا المنطق زاد الرجل توترا إذ تحصل على نفس النتائج التي حصل عليها من قبل، نتائج غير دقيقة، إنه لمنطق قديم عديم المنفعة، حيث أن كل شخص يعتقد أن عقيدته هي الصحيحة، و من خلاله كذلك يمكنه أن يخطئ كل العقائد التي تخالفها، و هذا ما يستعمله أغلب الناس في الحقيقة مما يجعلهم مطمئنين بما هم عليه، لا يحتملون و لو بنسبة قليلة أنهم على خطأ، و لا يكلفون أنفسهم عناء البحث و معرفة الآخر. بعد معرفة فشل المنطق الأرسطي في إنقاذه بمحاولته الأخيرة، صار في مأزق حيث تقلصت حظوظه في أن يؤمن بعقيدة تجلب له راحة أبدية.
لا يعقل أن كل العقائد خطأ لكي لا يؤمن بأحدها، أليست هنالك عقيدة بينة كالشمس في وضوحها أمن الصعب أن نعرف الصحيح؟ لقد احتار ماذا يفعل لم يعد له سبيل إلا الرجوع إلى دين أبائه و أجداده، ذلك الدين الذي تربى عليه و نشأ، لا شك أن قلبه لايزال مبقيا على محبة له، على الأقل ليطمئن قلبه و يرحل من الدنيا و هو مؤمن بشيء. لكنه للأسف حاول تذكر هذه العقيدة العتيدة؛ فلم يستطع، لأنه منذ زمن بعيد شك بها و كل التقاليد الذي نشأ عليها، و قرر أن يبدأ من جديد سالكا حكمة سقراط في أن كل ما يعرفه هو أنه لا يعرف شيئا. حنق و لعن هذه الحكمة المظلة التي ظل متمسكا بها طوال حياته.
ماذا يفعل الوقت ينفد و ليس باليد حيلة، ناجى ربه بكل خنوع: "أرجوك يا الله مدني بقوتك و رحمتك العظيمتين، إنني وحدي و ليس لي غيرك".
بدأت سكرات الموت تتوالى عليه، أحس ببرودة تسري في أنحاء جسده، حشرجة في صدره، ألم انتزاع روحه من أعضاء جسده، ما زال عقله يعمل، حاول أن يخفف من تلك السكرات؛ تخيل أنه وسط الجنان ترحب به الملائكة، ترحيب العائد منتصرا من معركة... لم تمض إلا لحظات ـ بطول العمر كله ـ حتى وجد خزنة جهنم يستقبلونه، يسوقونه إلى الجحيم حيث العذاب الأليم المقيم، يؤتون به فيغمس فيها غمسة يسقط جلده و لحمه عن العظام، قام يستذكر ما يحفظ من الصلوات و الترانيم، بعشوائية و بلغة غير مفهومة ـ و لا يهمه لأي دين ينتمي ـ الصوت المبهم يعود "انتهى الوقت".