المشاركة رقم 12
قارون الجديد
بقلم/ نوال مهني ــ مصر
أمام المدخل الرئيسي لإحدى المؤسسات الصناعية الكبرى، وقف الصحفي الشاب الذي يعمل محررا في مطبوعة أسبوعية شهيرة، راح يتأمل اللافتات المعلقة على الواجهة ويقرأ ـ مصنع قارون الجديد ـ تبسم ساخرا وهو يقول لنفسه: ترى من يكون الجديد فيهما! المصنع أم قارون!.
دلف إلى الداخل وتوجه إلى موظف الاستعلامات.
ــ أريد مقابلة السيد قارون، رئيس المؤسسة.
ــ هل لديك موعد سابق؟
ــ نعم.
ــ اسم حضرتك؟
ــ عزيز كمال الدين، محرر بمجلة نور الصباح الأسبوعية.
نظر الموظف في سجل الزيارات و تأكد من الاسم و الموعد، ثم اصطحبه إلى مكتب الرئيس.
في مكتبه الفخم الضخم، جلس رجل الأعمال الثري و أمامه الصحفي الشاب الذي أعد جهاز التسجيل و بدأ حديثه قائلا:
ــ سيد قارون، نريد أن نعرف قصة حياتك، من البداية و حتى وصلت إلى رجل أعمال يمتلك مجموعة من أكبر الشركات و المصانع، و لديه رصيد هائل من الأموال في مصارف الدولة، بل و يصنف ضمن أثرياء العالم.
تبسم قارون في فخر و زهو و تراجع بمقعده للخلف و أخذ نفسا عميقا و تصنع التفكير قليلا ثم أجاب:
ــ أعرف أنك صاحب انفرادات و تحقيقات توصف بأنها خبطات صحفية تزيد من توزيع المجلة، و هذا يدعم مكانتك عند رئيس التحرير.
ــ في الحقيقة ليس الغرض زيادة التوزيع، و إنما نحن نريد تقديم نموذج ناجح للشباب، و لا بد أن نجاحك وراءه قصة كفاح كبرى.
اعتدل قارون في جلسته، و قد راقه كلام الصحفي و بدأ حديثه في جدية:
( 1 )
ــ لقد بدأت حياتي موظفا صغيرا في وزارة الزراعة ، وكان راتبي يكفي بالكاد ضرورات الحياة، و لكن طموحي و علاقاتي الحسنة مع كبار المسئولين، و خدماتي لهم حتى خارج العمل جعلهم يتعاطفون معي.
و بمساعدتهم حصلت على قرض من أحد البنوك، و اشتريت به قطعة أرض زراعية كانت الوزارة تعرضها للبيع في مزاد علني، و يسدد ثمنها على أقساط مريحة، و كانت فاتحة خير لي ، تلك كانت البداية.
ــ و كيف كانت هذه البداية فاتحة خير لك كما تقول؟
ــ في الحقيقة أنا لا أفهم في الزراعة ، فضلا عن أن الزراعة متاعبها كثيرة و أرباحها قليلة، أى أنها لا ترضي طموحي، لذا تركت الأرض فترة من الزمن و قمت بتقسيمها بيعها بثمن مجزي لشركات استثمارية كبرى لإنشاء بعض المشاريع التي تدر ربحا كبيرا، و ربحت أنا ثروة لا تقارن بثمنها الأصلي، و تكرر نفس الشيء كثيرا، و عندما توافر لديَّ قدر كبير من المال؛ قررت أن أنشئ مشروعات خاصة بي و أكون أنا صاحبها و مسئول إدارتها، و في كل عام يزيد عدد المؤسسات و الشركات.
ــ إذن أعجبتك اللعبة، و لكن ألا ترى أن تكرار حصولك على أرض الدولة بأثمان زهيدة و استغلالها في غير الأغراض التي بيعت من أجلها عمل غير قانوني ؟
ــ أنا لا أعرف القانون، و ما دام القانون لم يتدخل و يمنعني فأنا في حل من الالتزام به.
ــ و كيف سمح لك المسئولون بتكرار الحصول على أرض الدولة، بينما هناك من لا يستطيع الحصول على قطعة واحدة؟
يصمت قارون قليلا و قد تجهم وجهه و تقطب حاجباه ، ثم يجيب بصوت منخفض:
ــ أصارحك بالحقيقة و لكن بصفتك صديق ـ يعني ليس للنشر ـ كما قلت لك من قبل نظير خدمات أقدمها لهم، و كذلك مقابل هدايا قيمة عند البيع و الشراء، فالمنفعة إذن مشتركة بيننا.
ــ إذن هم ينتفعون بطريقة غير مباشرة، فلماذا لا يحصلون هم على أرض خاصة بهم و يبيعونها لحسابهم؟.
ــ هذا ممنوع قانونا بحكم مواقعهم الوظيفية.
( 2 )
ــ يقال أنك لم تسدد قرض البنك، و تتهرب من الضرائب، و تفسد المساحة الزراعية بمشروعاتك و بناياتك، و يقال أيضا أنك تمتلك أموالا كثيرة بالخارج، كان أولى أن تستثمرها هنا في وطنك، بل و يتردد بين الناس أنك تنفق أموالا طائلة في اللهو و لم يستفد المجتمع من ثروتك.
ــ هذه إشاعات كاذبة ، يرددها أعداء النجاح و الحاقدون و الحاسدون و هم كثر، أنا لست وحدي من يفعل ذلك ،انظر حولك لترى غيري.
ــ ألا ترى شبها بينك و بين قارون القديم؟.
أرتجف الرجل، ظهر الانفعال على وجهه و صوته، صاح: تقصد قارون موسى؟! أنا لا أرى أي وجه شبه بيني و بينه سوى الاسم، ثم أنني جمعت هذه الثروة بفكري و جهدي، و بنيت هذه المشروعات و صنعتها على عيني.
علق الصحفي ساخرا و هو يجمع أوراقه و يهم بالانصراف، كذلك قال قارون القديم: سأعود لتكملة الحوار في الأسبوع القادم إن شاء الله.
عاد قارون إلى بيته ـ بعد يوم حافل بالأعباء ـ قلقا متوترا، شعر بغصة في حلقه و الأفكار السوداء تكاد تحطم رأسه و ظل يسأل نفسه: ما الذي دفع هذا الصحفي الخبيث أن يقارن بيني و بين قارون موسى! أيعقل أن تكون هذه صورتي ـ و العياذ بالله ـ أمام الناس! مالي أنا و هذا الباغي الذي خسف اللهُ به و بداره الأرض، ياله من مصير مؤسف، اللهم نجنا منه، اتجه إلى غرفة نومه محاولا أن يستريح و يطرد عن فكره الهواجس المزعجة و لكن دون جدوى، آ آه ه سامح الله والداي، أما وجدا غير اسم قارون كي يختاراه لي! تبا لك يا عزيز ما هذه المقارنة الظالمة.
بعد سهاد و إجهاد شديدين أخذته سنة من النوم، رأى في منامه رجلا غامضا ذو نظرات مريبة يرتدي زيا فرعونيا ، يجلس على حافة سريره و يبدو كأنه قادم من سفر بعيد، هب من رقدته متسائلا: من أنت و لماذا أتيت إلى هنا؟.
ــ أنا قارون موسى، و أنت الذي استدعيتني ، فجئت إليك.
ــ أنا لم استدع أحدا.
ــ ألم تذكر اسمي كثيرا، ثم إنك سميي و بيننا أوجه شبه كثيرة.
ــ لا تقل هذا، ليس بيني و بينك أية عوامل مشتركة، سوى الاسم أنا أرفض أن أتشبه بك.
ــ الحقيقة أن بيننا عوامل مشتركة، و لكنك تغفل عنها و تتجاهلها.
ــ ( ساخرا ) مثل ماذا؟
ــ مثل حب الثراء وجمع المال وعدم الإنفاق فيما ينفع الناس.
( 3 )
ــ المقارنة ظالمة و الفارق كبير، إن كنوزك تنوء بحمل مفاتيحها عصبة قوية ، ثم أنا لم أسرق أحدا، و قد جمعت هذا المال بجهدي و مهارتي.
ــ و أنا أيضا ( إنما أوتيتهُ على علمٍ عندي )
ــ يقول بعض المؤرخين أنك كنت خبيرا بالكيمياء، و عرفت كيفية تحويل المعادن الخسيسة مثل النحاس إلى معادن نفيسة مثل الذهب.
ــ هذا صحيح و هو مصدر ثروتي،
ــ لكن بعض المؤرخين يؤكدون أنك كنت تسرق الذهب من المقابر الفرعونية مستغلا ثقة الفرعون بك.
ــ هذا قول الحاسدين، حسدا و غيرة منهم و حقدا عليّ.
ــ ألم تكن من بني إسرائيل و قريبا لنبي الله موسى، ما الذي جعلك تبغي عليهم و لا تتبع نبيهم؟
ــ إن موسى يقيدني بتعاليم لا ترضي طموحي و تحرمني متع الحياة.
ــ و أين خبأت كنوزك؟
ــ لن أبوح بهذا السر، ستظل كنوزي مدفونة في باطن الأرض حتى لا ينتفع بها أحد في الدنيا.
ــ لقد كان آخر عهدك بالدنيا يوم خرجت على قومك في زينة تضاهي زينة الملك، تريد الظهور عليهم و إذلالهم، فخسف الله بك و بدارك الأرض.
ينتفض قارون القديم كمن لدغه أفعوان و يقف في مواجهة قارون الجديد، و هو يمسك رأسه بين يديه و يصيح: يا للهول يا للهول، يضيف قارون الجديد في حدة، لقد نصحك المؤمنون من قومك و قالوا لك: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) (1) و لكنك لم تستمع للنصيحة و نسبت الفضل لنفسك فلم تجد من ينصرك من دون الله،
ظل قارون القديم يردد و هو يرتعد ياللهول0 ياللهول، بينما قارون الجديد يلاحقه بالسؤال: هل أنت نادم على كفرك؟ يتراجع قارون القديم إلى الخلف و هو يهذي، لم يعد يجدي ندم بعد أن وقعت الواقعة، آآه لقد وقعت الواقعة، ظل صوته يتردد بانخفاض مطرد وطيفه يشحب حتى تلاشى تماما.
هب قارون من نومه فزعا و هو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم و من هذا الكابوس المخيف و ذاك المصير المأساوي، وضع يده على جبينه و الأخرى.
( 4 )
على صدره و ظل يستغفر الله على ما أقترف من ذنوب و ما أخذ بغير حق و راح يحصي أخطاءه و كيف أسرف على نفسه، و يتساءل: ماذا سيفعل إذا أتاه الموت بغتة و جاء يوم الحساب ( يوم لا ينفع مال و لا بنون ).
الآن حان وقت الاعتراف بالأخطاء و تسمية الأشياء بمسمياتها، لن تنجيني أموالي من هذا المصير المفجع، إنها صحوة ضمير تأخرت كثيرا.
ليت هذا الصحفي جاء قبل ذلك ، يا سبحان الله لقد سبق أن قابلت عشرات الصحافيين و الإعلاميين، لماذا هذا الشاب بالذات؟ إن مقارنته الساخرة بيني وبين قارون موسى و التي لا أدري هل جاءت عفوا أم قصدا كانت سببا في هذا التحول، لابد من إصلاح المسار قبل فوات الأوان و قبل أن تقع الواقعة.
بعد مضي أسبوع، ذهب الصحافي إلى مصنع قارون الجديد لاستكمال الحديث الصحفي طبقا للموعد السابق، استقبله موظف الاستقبال معتذرا ، فالسيد قارون لم يعد يملك المصنع و المؤسسات الأخرى، لقد تبرع ببعضها للجمعيات الخيرية لمساعدة المحتاجين و الفقراء ، وأوقف الباقي لعلاج المرضى و إيواء المشردين، و لم يحتفظ لنفسه سوى ببيت ريفي بسيط بجواره قطعة أرض صغيرة، يقوم على فلاحتها بنفسه ليتقوت منها، كما قرر الابتعاد عن الأضواء و التفرغ للعبادة.
.................................
(1) سورة القصص الآية رقم (77)
(1) سورة القصص الآية رقم (77)