المركز العاشر
ذئاب رحيمة
بقلم/ فلاح العيساوي: العراق
أنظر إلى أكبادي الأربعة و هم يلعبون و يمرحون أمام بيتنا الطيني في
قريتنا الواقعة على حدود الموصل، ضحكاتهم البريئة لا تعرف معنى للخوف أو للقلق،
القرى القريبة منا قد نالتها هجمات وحشية، هجرها أهلها خوفا على أرواحهم، خطر قريب
يتربص بنا ريب المنون، يحز الخوف في شرايين قلبي، زوجي يقاتل على ضفة قريتنا
الصغيرة مع إخوانه الشجعان.. طيف ذكرياتي أعاد صورة من الأيام الماضية.
حين حمل سلاحه و الغضب يتطاير شررا، أعمدة الدخان تتصاعد في الأفق..
في باحة الدار جثوت على ركبتي متوسلة: حبيبي إلى أين تذهب و تتركني؟.
فأجاب و الدموع تترقرق في عينيه: حبيبتي أنت شرفي و عزي، من يدافع عنك
غيري، دعيني أذهب قبل أن تصبحين أسيرة بيد تلك الوحوش.
تناثرت دموعي فوق أثار قدميه،
لا أحساس بالأمان من دونه، الخيمة بلا عمود تسقط فوق رؤوس أهلها.
دوي انفجار القنابل سرقني من لحظة الطيف، هاج بي الفزع، حرك الرعب
جسدي الخاوي، صرخات أطفالي تعالت في باحة الدار، أسرعت إليهم بأوصال ترتجف صحت
بهم: ادخلوا للدار بسرعة.
جلسوا حولي يتساءلون: ماما ما هذه الأصوات؟.
فأوهمتهم أن هذا صوت الرعد في السماء.
هز أحمد رأسه معارضا:
- لا توجد غيوم في السماء و الشمس مشرقة فوق رؤوسنا يا أمي.
أسكتهم بذريعة أخرى، فصمت أحمد مع عدم قناعته.
سكن خوفهم و بدأوا باللعب، أسرعت إلى سطح الدار، أنظر إلى أطراف
قريتي.. المعركة حامية، رجالنا صامدون رغم كثافة العدو و قوة القصف، رجعت إلى
الغرفة و الخوف نار تشتعل في أعماقي.
سمعنا صوت الباب الخارجي و هو يصطدم بقوة مع وقع أقدام تدخل إلى باحة
البيت؛ أثار هذا خوفنا من جديد... لحظات، وقف أمامنا و هو يمسح العرق عن جبينه..
قفزنا جميعا من مكاننا و أسرعنا إليه بفرحة عارمة.
عناق و تقبيل، أشواق تنزف ألم الفراق، أخذني إلى غرفة منفردة همس:
- الخطر يحيط بأسوار قريتنا، علي العودة إلى ساحة المعركة.
فأجبت بدهشة: و من لي و للأطفال؟.
قال بألم: إن تركت ساحة النزال فسوف تكونين سبية عند داعش.
- سأعود لأخذكم خارج القرية.
احتضن الأطفال يقبلهم، يودعهم على مضض، بالكاد أفلت يدي من عناق حار،
قلب يرتجف من مصير مجهول، تمضي الدقائق
عقارب تدق ناقوس الخطر، مضت ساعات أخرى، ما زلت أتأمل عودته، الليل وحش أسود كاسر،
أزيز الرصاص و الانفجارات تقترب أكثر من ذي قبل، أعياني الوسن فأغمضت عيني برهة،
أصوات الرصاص بالقرب من باب الدار أفزعني؛ نهضت بسرعة أتطلع الحال.. وقفت خلف
الباب، أصوات رجال غريبة.. أسرعت إلى الغرفة، أيقظت الأطفال و خرجنا من الباب
الخلفي، في ظلام الليل؛ همت على وجهي، هاربة مرعوبة من المصير الأسود، ركضت على
أرض جرداء، وحوش بشرية تريد اختطافي، دقائق قليلة أحاطت بنا ضحكات تثير الاشمئزاز،
أقترب أحدهم مني، أخرجت تلك السكين التي حملتها معي، حاولت ضرب ذلك اللئيم الذي
تفادى الضربة، سقط السكين من يدي، أسرعت إليه؛ سبقني لئيم ثان خطفه من أمامي،
داخلني اليأس فاحتضنت أطفالي بجسد يهتز من الرعب، تساقطت دموعي على ذلك السكين،
آنى لي بسكين اغرسه في قلبي، عاهدت نفسي أن لا يمسسني قذر، لا اعرف أين تعلق
فؤادي، أبصرت نور في السماء ينبثق منه الأمل، صرخت بقوة يا رب اليك هربت و عندك
لجأت...
ذئاب تعوي، تركض بسرعة قادمة نحو الوحوش البشرية؛ أخذهم الرعب، تعالت
أصواتهم و لاذوا بالفرار كأنهم جرذان؛ فركت عينيّ و الذهول يجتاح عقلي، نظرت إلى
السماء بدموع الشكر، أسرعت أركض مع أطفالي في الاتجاه المعاكس، وجدت نفسي على
قارعة الطريق، أحاطت بنا سيارات ترجل منها رجال مدججون بالسلاح، قال أحدهم: أختاه
لا تخافي نحن أخوتك من الحشد الشعبي.