المركز الثامن
السحر المائل للسمرة
بقلم/ طارق الصاوى خلف: مصر
ها
أنت تحمل هم امرؤ القيس، و خمرة الحب تلهيك عن ثأر أب سجيته في قلب لحد، وضعت خده
على صفحة الرمل، لم تجد من يرحم علتك، يحفر- قبره معك ـ تركوك تنبش بيديك
العليلتين روحك الكسيرة؛ لُتكرم مثواه.
فكوا جبيرة الجبس عن شقك الأيمن من أعلى،
انتزع الطبيب سلك خاط به فروة رأسك بعد أن التأم الجرح، أرسلت عيون النساء ـ
اللائي أحطن بسريرك كغرابيب سود - سؤالا:
متى تفتك بقاتل الأب الواقع في قبضتك؟
يرقد - بلا حول - في الغرفة المواجهة لك، يئن
من سكين حاول به أبوك أن يذبحه, سمى و كبر عليه, أخطأ في قطع العروق، رسم بنصله خطوطا غائرة فى جلده، تلتها لحظة اصطكاك الفئوس على أم رأس أبيك، قبل أن
يسقطوه، يعزقوه كأنه نبتة شيطانية، تُجتث من حقلٍ، سلبوه من جدك في جلسة عرفية و
صمته بالغمز بعين عوراء لحرمة شمطاء من
نسائهم.
بعد شهور؛ حصد منجل غضبهم عمر جدك، متشفعين
بقول شهود زور أنه تعدى بفعلٍ على الشمطاء؛ صلبوه في جرنهم لأيام، مرفوعا على خشبة تحول لونها للأحمر القاني؛ رد
أبوك بطلقة يتيمة؛ أخرست صراخ طير يقال له الهامة، يقف على الدم النازف من القتيل،
ينادى:
ـ اسقوني... اسقوني.
تتناول حبات فيها شفاءك من يد ممرضة, تتغذى
بطول النظر لوجهها المائل للسمرة، أناملك تمس يد تحمل كوب ماء؛ يسرى تيار من
النشوة في دمك، تركب صهوة المقامرة؛ تقرص خدها، تحمر وجنتيها، ترميك بنظرة تأنيب،
تنعقد جبهتها بالغيظ، تتقد بخجل العذارى،
يجف الريق من حلقك، تسعل... تنفرج شفتيها عن ابتسامة ماكرة حمالة أوجه، تقبل كل
تأويل: دعوة، تحذير، ُتفقدك بوصلة ترشدك لأي سبيل تسير فيه معها.
تعيش أسيرا لرأس أبيك الذي فصلوه عن جسده،
ألقوه لصبيانهم، يجرون به و أنت المضروب بالشوم على لوح كتفك، تميل بشقك على جرحك،
تصرخ فيهم، تركض، وقعت في حماهم؛ لو أرادوا
لألحقوك بالوالد، سقوك بضربة جزاء كأس المنية، بيد أنهم تركوا لك الرأس
ملطخا بالوحل... مسحت عنه الأذى بعرقك و دموعك، وضعت الرأس في حجر الجلباب، جذبت
طرفة، حشوته فى فمك، أطبقت عليه بأسنانك.
سرت تتوكأ مستندا على الجدران، طابور المتفرجين من خلفك، عيونهم كاميرات تصوير
توثق جمعك للحمك؛ رددت الرأس لحضن الجسد,
حمل النعش على أعناقهم من أشفقوا عليك, أرادوا اقتسام أجر تشييع الجنازة معك.
تحملت قدرك، تصارع سقوط الفرع و الجذع الباقي
لشجرة توشك أن ُينتزع جذرها من حديقة العائلات بالسجل المدني، قطيع الثكالى حول
السرير يقرضون السكون بهمهمات لا تفسر لها معنى، عيناك زائغتان تتبعان تنهدات
السقف المطلي بلون الاستسلام الأبيض.
فرخهم الكسير ألقوه بين أسنانك، طمعوا أن
يصيدوا النسر بطُعم فاسد، لم تعد معادلة الرأس برأس هي هدفك، لقد زهدت فيها، لن
تقبل بعصفور شراقي كسيح بديلا عن أبيك، مازال في الزمن بقية، و في الأمر متسع،
لتفتل حبل انتقامك، لن تتعجل الفخ و تصبح مطلوبا لديهم.
لم تقصر في حق أبيك حيا؛ أطلقت بعد خروجه من
السجن إشاعة طاف دخانها بالقرية، عن هروب أبيك إلى ليبيا، و هو رهين غرفة لا
تزورها الشمس؛ امتطى المرض ضعف جسده، أخرجته مجبرا لعيادة طبيب، و عند العودة شموا رائحته؛ حاصرتكما ضباع
تفترس حملين، تحول كتفك و الذراع لرجل بنطال ليس له قوام؛ تنحيت عن المعركة فاقدا
الوعي.
تُشعل روحك بالوجد وقع خطواتها على البلاط،
يرتجف قلبك بنبض عنيف مع اهتزاز أردافها، تشرب من نهر عينيها كأس الشجاعة، تباغتها
بالتفاف أصابع كفك على معصمها، يهش خجلها - من فعلك - حمامة تعشش على ثغر أمك؛
فتنظر مشدوهة ببلاهة، ترفع صوتك قبل أن تهوى- ملاك الرحمة بيدها الحرة؛ لتهتك ستر
خدك ـ: "تتجوزينى"؟.
يضوع
المسك من فمها، ينتفض جسد الغزال و هي تفر من الوعل، يبقى صوتها أغنية
بمقطع وحيد يتردد في قوقعة أذنك: نتكلم بالليل.
تنهال نعال الثكالى على ظهر الرجل المرتجى،
تختم أمك فاصل الغيظ من فعلك ببصقه تستقر على أرنبة انفك.
تعلم النسوة أن أبيك ليس أبو زيد الهلالى، أو
الرجل الذى تنتظره الحياة فاردة ذراعيها، تنفث ريحا – طيبة - بمركب حياته، يصل لمرفأ أمله.
قبل أن تقع الواقعة؛ صارحك الطبيب بحال أبيك:
عناكب السرطان تمكنت من الكبد، أضحى طلوع الروح مسألة وقت، سينزل فيه القضاء ثقيل
الوطأة على من يحيطون به...
عاجلوه بقطف ثمره قلبه، استراح من ألم ينهش أحشائه بأنياب كلب مسعور... ترد على نفسك،
لكنك لابد أن تحملهم وزر قتله.
تقص النساء حبل الوصل، تنزفن الدمع جمرا على
فتاهم، أغرقه سحر أسود ببحر الهوى، ينظرون
بقلوب منفطرة للممرضة وهي تتأبط ذراعك، تقبض يديك على تذكرتي سفر لوجه بحرى في أول
رحلة بقطار الغربة.
سيضرب القلق بجبروته ليالى من قبضوا روح
أبيك، أصبحوا مدينين لك، ينتظرون لحظة تحط
عليهم، تقضى منهم ثأرك، تدرك أنهم لن
يضعوا أياديهم على خدودهم حتى يحط عليهم نسر انتقامك؛ يمزق ساحتهم بمخالبه،
يقطع رممهم بمنقاره... سيضربون الودع، يستخبرون الرمل، يسألون عنك طوب الأرض،
يرسلون للمدن العيون لترصدك و أنت تنسج لهم في غيبتك أكفان المكائد ُتذهب بها راحة بالهم.