مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المشاركة رقم 59 (مارس2016): إنها الساعة السابعة و ست دقائق..

المشاركة رقم 59
إنها الساعة السابعة و ست دقائق..
بقلم/ ندى علي فجراوي ـ تونس
   استيقظ رشيد من نومه بعينين متورمتين و أنف مسدود على نفس الكابوس الذي كان يستيقظ عليه لثلاثة أيام مضت؛ لا رائحة قهوة و لا صوت الأواني في المطبخ و لا دندنة و لا مذياع ينخر هذا الصمت الكئيب.
لقد تعطلت حياته فجأة و فقدت ذلك النسق الذي كانت تسير عليه كقطار ذابت سكته الحديدية بين الرمال...
ظلّ رشيد ينظر إلى تلك الأركان القاتمة التي تحيط به و قد ارتدت الغرفة وشاحا من الظلمة لم يره من قبل، لم يخبره أحد أنّ الحياة ستصفعه بهذه القوة يوما، لم يخبره أحد أنّ للرجل أيضا حظّ الأنثيين من الألم أحيانا...
هرب بسرعة إلى المطبخ ليسلق بيضتين و يحضر القهوة قبل أن تبتلعه الذكريات مجددا، لم يرد أن يتذوق طعم البكاء هذا اليوم أيضا في قهوته، لم يرد أن يفكر بتلك الأفكار التي لم ينس أحد أن يخبره أنها تغضب الإله و تقوده مباشرة إلى جهنم.
يوم أمس؛ بكى رشيد، و لك أن تتصوّر لماذا بكى؟!
لقد بكى رشيد ذو السادسة و الأربعين عاما لأنه لم يجد أين تضع زوجته القهوة؛ بكى بكل ما للبكاء من معنى.
لا تنكر أنت ذلك أيضا عليه و تقل له أنّ الرجال لا يبكون؛ فقد حمد رشيد ربه لأنّ أحدا لم يخبره بذلك.
وضع ملعقتين كبيرتين من القهوة في كوب من الماء ثمّ وضعها على الموقد حتى يتجانس الجميع.
 لم يبد له الآن أنّ الحافلة الصفراء ستفوته إن لم يلحق بها بسرعة؛ لم يعد يهمه الآن أنّها لن تعود إلى نفس الموقف إلا بعد ساعتين، لم يعد يهمه أنّ سائقي الحافلات من المغضوب عليهم لأنهم يضيعون حياة الكثيرين بما فيهم حياة رشيد لتوّقفهم في كل مناوبة على قدر ما تسمح به ضمائرهم القابعة أسفل ظهورهم.
كانت حرارة ألسنة اللهب تلفح وجهه الشاحب و قد تسمّر قرب الموقد ينظر في صمت إلى أسفل الإبريق... كم مرة أدخلت يدها لتغسله من القهوة العالقة؟، كم مرة حضرت القهوة و قد حفظت تلك الخطوات عن ظهر قلب؟، كيف كانت تعدّها؟.
لم تزل تلك الصورة أمام عينيه المذهولتين، كحلم يأبى أن يغادر ذاكرته، كحلم تكرر مئات المرات دون أن يمتّ لما يعيشه بصلة.
ربمّا حضر العزاء الكثير من الوجوه التي لم يعرفها أصلا و صافحه الكثيرون لكن ها هو يقبع الآن وحيدا يفتته الفقد بين أصابعه كما يفتت الماء المغلي ذرات القهوة.
لم ينتبه رشيد إلى القهوة التي فاضت على جوانب الإبريق و قد غرق في بحر من الذكريات بعد أن ألّح عليه ذهنه ليشرع في البحث عن علبة السّكر.
 كانت علبة فضية طالما أمسكتها هدى بيديها الكبيرتين و هي تسكب السكر في فنجانه كلّ صباح، ثلاث ملاعق صغيرة؛ ثلاث ملاعق تكفي لتجعل طعم القهوة بارزا و نسبة السكر معتدلة في دم رشيد قبل أن ينطلق راكضا وراء الحافلة الصفراء التي تقلّه إلى عمله... كانت تضعها في الصينية مساء مع أكواب الشاي و بعض الحلوى حين يعود رشيد من العمل؛ كان أحيانا يغلبه التعب فيتوسد ركبتها لتصير علبة السكر أمام عينيه و هو يتابع الأخبار بينما تكون هدى تمسح على شعره كأمّ حانية حتى يأخذه النوم هناك أين تصير هذه الجدران المتهالكة منزلا محترما.  .
تزوّج رشيد في سنّ الخامسة و العشرين من هدى بعد أن خطبتها له أمّه, لم يكن حينها الحب لينفش على الناس ريشه حين كان الجميع يعيش على وتيرة واحدة، وتيرة العشرة الصالحة.
لم يعرف رشيد هدى إلا في تلك الأشهر القلائل التي سبقت زواجهما، كانا يلتقيان في حضور أميهما ليسألها بكلّ بساطة إن كانت تعرف كيف تحضّر القهوة.
لم يعلم أبدا لمَّ سألها عن القهوة في ذلك الوقت؛ فقد كان شابا خجولا جدا و لم يكن قد جلس من قبل مقابلا لفتاة في عمره تقريبا.
أمّا هدى فقد صارت تحضّر له القهوة كلّما جاء لمقابلتها في المرّات القليلة بعد ذلك.
هاهو الآن بعد إحدى و عشرين عاما لم يحفظ أبدا عن هدى كيف كانت تعدّ له القهوة، و لم يسألها يوما أين تضع علبة السكر، و لم يكلف أبدا نفسه أن يتخيل دقيقة واحدة من حياته خالية من هدى، تماما ككوب قهوة لم تُسكب فيه ثلاث ملاعق من السكر.