المركز العاشر:
الطُهُور
بقلم
أ/ مجدي شعيشع (مصري مقيم في الكويت)
عجلة
عشماوي تشق الحقول يسبقها صوت الجرس كنعيق الغربان، تطير رغم تهالكها بين أراضي
القمح والفول الأخضر، وعلى الكرسي الخلفي صندوق خشبي للعِدة مرفوع عليه علم مصر،
إنها عجلة عمي أحمد فؤاد حلاق الصحة (عشماوي)، أغلق دكانه لأجلي في يوم حار،
سيقتنص جنيهاً يغنيه عن حلاقة خمسين رأس!
صرخ
الأطفال عشماوي عشماوي ، لابد من الهروب، سلمت ساقي للريح، غزال تطارده أسود
الحارة، الشوارع مغلقة الهواء لا يستطيع النفاذ من بينها، حملتني الرياح (لعزبة
البيه) المخيفة في عِز النهار، المُتخمة بالخرافات عن شجرة الجميز والجِنْية التي
تسكنها تتقطع أنفاسي كلما اقتربت منها، تسلقت أفرعها المرعبة التي تشبعت بالحكايات
عنها، الهارب سهم أطلقته القسوة للمجهول، حين يتأخر الهروب يكون الاستسلام أمرا
واقعا، تلقفتني يد خشنة يعرفها المذنبون لحظة القبض عليهم، فالمخبر إن أمسك بالهواء؛
لن يفلته، وقعت في الأسر كحبة قمح سقطت في رحاية، الحماية مطلبي الوحيد وهي حلم كل
أسير، النسوة ملأن الدار تكتسي وجوههن بالشفقة .
منذ
أيام وأنا أسترق سمع مؤامرة الطهور تحاك بين أبي وأمي، وأتظاهر بصناعة (عَجَلات
الكازوز)، تحسنت المعاملات تفوق أحلامي وأكبر من قدرتي على الاستيعاب، تسمين
الضحية يجري بمنتهى الرضا!
أخي
الأصغر مصطفى وطّد علاقته بي حتماً سيحظى بــ (قطعة دجاج) فالآن أحصل على رُبع
الذبيحة وإن كانت بطة مع جناح وربما الكبدة.
الأيدي
الغليظة تعتصر ضحية لا يمتلك من براهين البراءة غير الدموع والتوسلات، القفص ضيق
والصيد عصفور تحت المطر .
اندس
الصبية وسط الكبار، يضحك من سبقني دوره بشماتة، تكسو بالرعب من لم يحن دوره!.
كرسي
خشبي كبير هو المقصلة وكرسي صغير بينهما حلة نحاس فالدم سيكون بحوراً، رفعوا
جلبابي الكستور، قيدني خالي إبراهيم بعنف انهارت مقاومتي، لا يوجد قلب يرق فينقذني .
هزمتني
كثرتهم وخذلتني قسوتهم، عشماوي صارم قاسي القلب، حاد الملامح كموس الحلاقة، لا
يعرف البِنج مطلقاً، تجلدني ملامحة، يقذفني بنظراتٍ كالجمر بعيون ثرثارة تقفز فوق
ثقبي نظارته، يحرك ظهر الشفرة على شاربه وأنا المكبل في أغلاله، ماذا فعلت لتهلكني
أضغانه، تهذيب فرع شجره يحتاج بستاني وليس جزار، تتقطع أنفاسي وتتعالى شهقاتي
وصراخي وسبابي.
عض
على شفته السفلى .
بسم
الله، الله أكبر، هوت يده بالشفرة بثبات وقسوة .
صرخت
من أعماقي يا بن الكااااااااا، قُطِعت أنفاسي، حملوني إلى سرير أرتجف من الآلام
التي لم تخففها دموعي ولا طبطبة أمي، تمتمات النساء هذيان في حفلة زار، مباركة
الأهل والجيران مجهولة السبب .
هطلت
عليّ النقود كالمطر بين خمسات وعشرات من القروش، ضربوا حِصاراً حول السرير لحصد
النقود !
من
يشغله حصد النقود لن يهتم بدماء تسيل ولا بدموع تنهمر ولا بأنين طفل مذبوح!.