ــــــــــــــــــــــــ
المركز
الأول
النوارس...
النوارس
بقلم/
أسعد الهلالي (عراقي مقيم في بلجيكا)
لا
أملكُ قارورةً أضعُ فيها رسالتي، كيفَ ستحملُها الأمواجُ إليكِ إذن؟... لا أملكُ
ورقةً ولا قلماً كذلك، كيف سأكتب؟، هل تصلُ الكلماتُ إن اكتفيتُ بنطقِها، أنا
مستعدٌ للصراخِ بها حتى يَبُحَّ صوتي، لكنْ، ستتلاشى صرختي قربَ أولِ نورسٍ ينتظرُ
موتي، هل تصدقين؟، النوارسُ، تلك الكائنات التي كنا نغازلُها ونعشقُ عبثها ونحن
عائدان من شارع المتنبي صعوداً إلى جسرِ الشهداءِ، إنها تنتظرُ الآن أن تغرقَني
الموجةُ القادمةَ كي تخترقَ مناقيرُها ومخالبُها جسدي، إنها تراني الآن مجردَ
وجبةَ غداء...
ومضة: تتشبثين بذراعي فرحةً وانتِ ترمين قطع الخبز
الصغيرة للنوارسِ الحائمةِ فوقَ جسرِ الشهداء...
كم كانت أليفةً وهي تقتربُ منا كثيراً حتى تكادُ تلامسُ أكفَّنا المحملةَ
بقطعِ الخبزِ، التقطتُ لكما أنتِ والنوارس الكثيرَ من الصور، ما زلتُ أتذكر.. ما
الذي حَدَث؟.. أليست هي النوارس ذاتها؟.. ألم تَعُد تكفيها قطعُ الخبزِ الصغيرةِ
فصارَت تطلبُ الأكفَّ التي منحَتها؟.. تواصلُ الدوران حولنا، تقتربُ منها أسرابٌ
أخرى، تزدادُ، توشكُ أن تغطي وجهَ السماءِ الغاضبِ، تمتزجُ أصواتُها وتتوحدُ حتى
تبدو صوتاً واحداً، زعيقٌ هائلٌ، تتكالبُ العشراتُ بل المئاتُ من النوارسِ، أنظرُ
حولي، أشعرُ بالجزعِ، ألا يمكن أن يكونَ هذا كابوساً أستيقظُ منهُ بعدَ قليل؟،
يقترب هديرُ الموجةِ القادمةِ، ترتفعُ شيئاً فشيئاً، تلوحُ في أفقِ البحرِ الممتدّ
حتى نهاية الكون، تتجمعُ وتتراكمُ ولا هدفَ لها سوى أن تُغرَقَني، هل تراني
سأصمدُ؟.. إلهي، لِمَ تخليتَ عنّي؟، هل فعلتُ ما يستحقُّ عداءَ الموجةِ؟..
والنوارسُ؟... ياللرعبِ، أنا من يرجو من الإلهِ نجدتَهُ، ألا يكفي ما فعلت كَي
يتخلى عنّي دونما تردُد؟!
ومضة: تهجمُ النوارسُ على جثةٍ أخذَها الموجُ
بعيداً عن قاربِنا المقلوبِ...
لمْ أعُد أرى شيئاً من الغريق فقد تداخلت الأجنحةُ مع المناقيرِ والمخالبِ
وبين الحينِ والآخرِ...
بالسرعة البطيئة: تقفزُ بقعةٌ من الدمِ لتمتزجَ بمياهِ البحرِ
الداكنةِ...
غادَرْنا الساحلَ المصريّ بعدَ منتصف الليلِ بقليل، حُشِرْنا وسطَ قاربٍ
بائسٍ متداعٍ، وتحتَ تهديدِ بنادق المهربين التي صُوِّبَت نحونا اضطررنا للصمتِ
والانصياعِ، ما إن بزغَ الفجرُ وداهمَتْنا بعضُ الأمواجُ العاتيةُ حتى انقلبَ
القاربَ وتحطمَت بعض أجزائِه، أريدُ قلماً وورقةً وقارورةً لأكتبَ لكِ: إنني
أعتذرُ عن موتي، وموتِ أبنائِنا الثلاثةِ، لمْ يجذبهم البحرُ إلى جوفه، بل طفت
جثثهم قُربي تماماً، أنظرُ إليهِم، يدورونَ حولي وكأنَّهُم يُمارسونَ رقصةً
بدائيةً غريبةً، هذهِ الوجوهُ الحبيبةُ التي شابَها الازرقاق، تخاصمنا أنا وأنت
كثيراً لكني لَمْ أَعُدْ أَتَذَكّرُ الآنَ أيةَ خُصومةٍ، تلاشت، صورُكِ الحبيبةُ
فقط هي التي تتراقص أمام عينيّ المضببتين...
صورة: تدخلينَ إلى قاعةَ المحاضرةِ متأخرةً،
قبلذاك، كان الأستاذ قد هدد بفصل أي متأخر، لم تُقدّمي أيَّ تبريرٍ سوى ابتسامتكِ
التي تَسحَرُ الأستاذَ فيدعوك للدخولِ مُحتفياً...
ابتسامتُك فقط هي التي أَسَرتني وجَذَبتني جذباً إلى قفصِكِ الذهبيّ،
تُعينُني هذه الصورُ على تَحمّلِ الموتِ القادمِ، بَلْ رُبّما تَرسمُ على شفتّي
ابتسامةً، أتساءلُ:
ـ هل كنتُ سعيداً؟...
الآن
فقط، وأنا طافٍ على نجادةٍ بلاستيكيةٍ برتقالية اللونِ أقولُ، نعم كنتُ سعيداً،
كَم انتظرتِ منّي مثلَ هذهِ الكلمةِ؟، لَمْ تَري إلاّ ضَجَري، كيفَ لي أَنْ أخبرَكِ بأنّي كنت ضجرا مما أحاطَ
بي لا منكِ، لَمْ يَكُن الأمرُ يَعنيك أَبداً، لكني كنتُ غَبيا، فَقَدْ جَذبتُكِ
جَذْباً إلى عالمي المتشائمِ، القَلِقِ، دَفَعَتني مخاوفي إلى مغادرةِ بِلادي،
ودفَعتُكِ إلى مرافقتي، ولمجردِ خلافٍ لا معنى لهُ، تركتُك تائهةً في القاهرةِ
لأهربَ بأولادِنا الثلاثةَ إلى أوربا، وها نحنُ، أنا طافٍ وسطَ إطارٍ بلاستيكي
برتقالي، وأبناؤنا الثلاثة يَطفونَ دونَ أَنْ يحتاجُوا إلى إطارات، فقد غَدوا هم
أنفسهم إطارات، امتلأتْ رئاتُهُم بالمياهِ حتى طَفَوا قربي تماما، لينَفّذوا بي
حُكمَ الإعدامِ بالنذالةِ، إنهم يُذَكرونني في كل لحظةٍ بنذالتي التي ستكونُ آخر
ما يرافقني حين تطمرني الموجةُ الهائلةُ القادمةُ، ما الذي افعلهُ الآنَ؟، لمْ
أَعُدْ أُريدُ شيئاً أكثرَ من أن أكتبَ لكِ كلمةً واحدةً كبيرةً، لَنْ أحتاج حبراً
فسأكتبها بدميِ، لكني أحتاجُ ورقةَ، مهلاً، سأكتبها على قميصي، لكني أحتاجُ
قارورةً لأضعَهُ فيها علّ الأمواج تُوصلُها إليكِ، ماذا أفعل؟... لم نحصلْ إلا على
إطارِ إنقاذٍ واحدٍ يا حبيبتي...
بالسرعة البطيئة جدا: لم يستغرق الزورق سوى ثوان لينقلبَ تحتَ
صَفَعاتِ الأمواجِ الهادرةِ.
ماذا افعل؟ حاولت أن أفكر بمنطقية في وضع غير منطقي، وضعت الإطار
البلاستيكي حول جسدي وأنا أفكر، من منا
الأجدر بالإنقاذ، أنا، أم ابني الأكبر أو الأوسط، أم تراه الأصغر؟.. كنت أراهم
يغرقون، لكني واصلت التفكير مستسلما لصفعات الأمواج، اختفوا من أمام عينيّ فجأة
فقد جذبتهم موجةُ هائلة لكني لم أكفّ عن التفكير والبكاء، صدقيني، لم أكن أفكر إلا
بأبنائي الذين طفوا قربي، كانوا ينظرون نحوي بوجوه منتفخة غاضبة، وعيون مفتوحة إلى
أقصاها، كانوا يوبخونني يا حبيبتي، اخترت أن أحيا، ربما كي أعود إليك فأقبل كفيك
معتذرا، لا لا.. إنني أكذب الآن ولم يعد الوقت مناسبا للكذب، لم أفكر بك إطلاقا،
لم أكن مستعدا للموت، ولم أتخذ قرارا نزيها.. كنت أنانيا، إنني أدفع ثمن جريمتي
أيتها الحبيبة، سأموت على أية حال، دونما مغفرة، محاطا بعيون أبنائنا الجاحظة
المؤنبة وهي تنظر نحوي برعب، لقد ملأني الرعب أنا أيضا، هل تكفي الموجة الهائلة
القادمة كي تطفئ ما تفجر في داخلي من بركان، هل فعل الرب ذلك؟.. هل هذه ما يدعونها
عدالته؟، إنهم يدورون حولي، وفوقنا تدور النوارس، وأمامي ترتفع الموجة الهائلة،
تقترب، أحاطني أبنائي وكأنهم يشاكسونني، كم لعبنا معا في بيتنا الصغير؟.. آه يا
بيتنا؟.. كنتُ أعود من عملي وسط شوارع بغداد المدججة بالبنادق والمفخخات والأحزمة
الناسفة والعبوات، بالسيطرات والجدران الكونكريتية المخيفة...
صورة: يقفز ابنائي الثلاثة إلى حضني... يفكرون
بأني عدت لهم بمعجزة، يتشبثون بي كما يتشبثون بدمية قابلة للفَقد...
لم تعد بغداد مخيفة الآن، هربنا منها كي نبحث عن حياة، شَعَرنا إننا نصارع
موتا متشبثاً حتى في النظرات التي تبدو ودودة للوهلة الأولى، قَرّرنا المغادرة، بل
قررتُ أنا المغادرة، لم يكن قراري مرضيا لك، بكيتِ كثيرا وأنت تودعين جيران
زقاقنا، كنتُ أصرخ بوجهك مختنقاً برفضك القاطع:
ـ الزقاق العتيق أم أوربا يا امرأة؟...
كنت
أسألك فتردين دونما تردد:
ـ بل الزقاق العتيق...
ما
الذي أفعل؟، وأوربا حلمي، منجاتي، إنها تقترب، حلمي يرتفع موجة هادرة كبيرة، سأصرخ
يا حبيبتي، لا بد أن تسمعيني، لن أموت دونما مغفرة، تقترب الموجة أكثر، تترجرج
الجثث المتناثرة حولي، يرتفع زعيق النوارس، يملأ الفضاء، الزعيق، الهدير.. تقترب
الموجة، ترتطم بي جثث أبنائي، أصرخ:
ـ عذرررررررررا...
تطمرني
تحت طبقات من المياه الداكنة، تتلاشى صرختي وسط الموجة الهائلة، تطوّح بي، استسلم،
اختنق، افتحُ فمي فتخترقهُ ملوحة مقيتة، مياهٌ كثيرة تقتحم رئتي، بدأتُ بالغرق،
أفكرُ بكِ يا حبيبتي، لم أحصل على زجاجة أو ورقة أو حبر، النوارس، تواصل زعيقها
فوقي، أسمعها، إلا إن صوتها يتلاشى تدريجيا، يتلاشى هدير الموجة أيضا.. تختفي
النوارس.... تختفي الموجة.... تختفين يا حبيبتي...
أختـفــــ...ي...