مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المركز الخامس: رغيف أحمر بقلم/ ماجد سويلم (تونس)

المركز الخامس
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
رغيف أحمر
بقلم/ ماجد سويلم (تونس) 
لم تتوقّف عائشة عن السعال طوال الليل.
تنافر كرير صدرها المحموم مع أنين أطفالها الجوعى و مع شخير زوجها المنهك ابراهيم.
لم تسكت الكلاب السائبة في تلك الليلة الظلماء. باتت الكلاب مسعورة تطارد بنباحها المبحوح النشاز المتسرّب من شقوق جدران البيت إلى أزقة القرية العزلاء.
تمام الثالثة صباحا. الفجر يرنّ فوق البيوت الآجرية المبعثرَة كقبور مُهْمَلة على حافتي سكّة الحديد الممتدّة بين ضواحي العاصمة النائمة. يوم جديد يطرق باب إبراهيم كالعادة بأكفّ الحيرة و الغموض. إبراهيم كسول جدّا عندما يوقظه الفجر، لكن له أطفال يريدون رغيفا ساخنا و زوجة عليلة تحتاج إلى جرعة كورتيزون مسكّنة.
تململ قليلا في فراشه الأعزل ثم نهض و فتح الباب بحركة مفاجئة ساخطة ليكفّ هذا الزائر السمج عن طرقه المزعج. تسلّلت نسمات الفجر المتطفّلة إلى غرفة البيت الوحيدة. حاصرت وجهه الكالح، نبشت في عينيه المتخاذلتين ثمّ وخزت أنفه المشتاق بدوره إلى رائحة الخبز الساخن.
التفت إلى عائشة التي لم يغمض لها جفن. تطلّع في وجهها الشاحب و في عينيها الشاخصتين. بادلته نظرات استجداء ثمّ حرّكت شفتيها المزرقّة و خاطبته بصوت مرتعش متقطّع:
"بالله عليك يا إبراهيم... اجتهد أكثر في طلب عمل آخر… يوفّر لنا… تغطية اجتماعية… و… دخلا أفضل".
حاولت أن تلحّ عليه في طلبها إلّا أنّ نوبة سعال و صفير أخرستها.
عائشة تعاني من ربو حادّ مزمن و دفتر العلاج المجاني لا يوفّر لها دائما بخّاخ الكورتيزون المفقود غالبا في الصيدليات الحكومية. استبدّت بها النوبة فانفجرت بالبكاء.
احتضنها ابراهيم و همس لها في أذنها: "سآتيك بجرعة الكورتيزون اليوم إن شاء الله".
جلس إلى جانبها يسلّيها. شيّد لها جبالا من الأمل فوق ركام من واقعهما الأليم. ابتسمت أخيرا، فانتصب واقفا، ودّعها بابتسامة عريضة و غادر الغرفة.
تقدّم بعض خطوات ثمّ توقّف أمام البيت ساهما يفكّر في طلب عائشة الصعب المنال. فسنّه المتقدّمة و بطاقته العدلية الملوّثة بأربعة أشهر سجن يحولان دون حصوله على عمل آخر في مصنع أو شركة أو إدارة. قطع تفكيره المُغرَق مواء قطّة جائعة جاءت تتمسّح على ساقيه. نهرها بلطف ثمّ أطلق ضحكة ساخرة. وضع الخوذة على رأسه المشوّشة و دفع درّاجته النارية المنتهية الصلاحية أمامه مهرولا خلف رزقه المدفون تحت أكوام النفايات.
ابراهيم البرباش*، رجل تجاوز الخمسين بِيُسر، أسمر البشرة، أغبر الهندام و أشعث الشيب، يقتات منذ سنوات من جمع أكياس الخبز اليابس من المزابل.
جاس كالسائر نائما عبر الأزقّة الضيّقة. مرّ أمام مخبزة القرية. تأمّل النافذة الصغيرة المضاءة فيها. أنصت بانتباه إلى الرنين الشهيّ لجرس الفرن. رفع رأسه الشاردة بجوع أطفاله و بمرض زوجته إلى السماء فتراءى له دخان الفرن يرسم خبزا ساخنا بين خيوط الفجر وهو يبتسم. ترك القرية وراءه متّجها إلى الأحياء المجاورة. اغتال هدير درّاجته المزعج السطوح البيض الغافية. جاب الشوارع الخاملة. كان يعرف كلّ الحاويات جيّدا من حيث موقعها و محتوياتها. غزا المصبّات العشوائية التي لا تطالها لا البلديات و لا أعوان النظافة و نبش في أكوام النفايات التي غالبا ما تُرمى من أصحابها عن بعد بخفّة و استهتار فلا تدخل الحاوية. يقف أمام الحاوية المثقوبة من كلّ جوانبها فتتقافز منها القطط مذعورة. تحيط القطط بإبراهيم محتفظة بمسافة أمان تنتظر دورها لتنقض على الكومة من جديد. بنهم شديد و بحركات رشيقة تعكس خبرة و دقّة لا متناهية يفصل بعصاه المعدنية الخبز اليابس عن باقي فضلات بخسة و ليست ذات قيمة.
كلّما تقع يده على قطعة خبز يابس يحاصره ذات التساؤل: لماذا يلقونه يابسا؟ لم لا يعطونه ساخنا؟ لماذا عليه أن يتحمّل جشع خبّاز القرية الذي يقايضه كيسا كبيرا من الخبز اليابس مقابل قطعة واحدة من الخبز الساخن؟
يفكّ حصار الأسئلة الخانق عندما ينقضّ على كومة النفايات الموالية غير مبال لا بقرّ الشتاء و لا برائحة المزابل المزكمة للأنوف و لا بسحابة الذباب المتماوجة فوق رأسه.
تمام الخامسة صباحا. إنّه يوم صيد ظافر. امتلأت مجرورته خبزا يابسا في وقت وجيز. فقد عمل ابراهيم اليوم بجدّ أكثر و جادت نفايات المبذّرين بكميّة خبز أكبر. امتطى درّاجته و انطلق كالسهم إلى المخبزة. ظلّ سعال عائشة يطارده و يتسرّب إلى أذني رأسه التائهة من تحت الخوذة كما لو كان صدى لا يتبدّد. في المخبزة حصل على أربعة أرغفة ساخنة. نظر إلى الخبز الشهي،  تذكّر عائشة التي وعدها بالدواء. أطرق لحظات ثمّ أخذ قراره. نزع خاتمه الفضّي من بنصره. رهنه عند الخبّاز الجشع. وضع الخبز في السلّة و غادر القرية من جديد يبحث عن صيدلية الليل ليشتري بخّاخ الكورتيزون.
رمى ابراهيم النقود على مصرف الصيدلية و اختطف البخّاخ من يد الصيدلي المتثائب ثمّ خرج على عجل. أطلق العنان لشقشقة درّاجته المجلجلة. صعّر خدّه للريح. رفع يديه عن المقود و صفّهما كطاووس مزهوّ بنفسه. الخبز و الدواء في آن واحد. إنّه إنجاز غير متوقّع، يكاد يكون معجزة.
طوت به درّاجته الأرض طيّا. تمام السادسة صباحا، وصل أخيرا إلى القرية. توقّف عند سكّة الحديد الفاصلة بين بيته و بين المخبزة ليفسح المجال لقطار الخامسة صباحا بالعبور. تأمّل الأجساد المتكدّسة داخل العربات المنهكة و الأرجل و الأيادي المتدلية من أبوابها المفتوحة. أمعن النظر فرأى عائشة في القطار تأخذ نفسا عميقا بكلّ يسر وهي تلوّح له بيديها من النافذة، بجانبها أبناؤها يقفزون فرحا وهم يقضمون الخبز بشراهة. لم يصدّق عينيه. فركهما بسرعة و أعاد النظر من جديد، إلّا أنّ القطار مرّ سريعا. ترك درّاجته جانبا. حمل سلّة الخبز و الدواء بيمينه. وقف على السكّة يتابع حركة القطار الهارب بعينيه الساهمتين.
أصابه الدوار. أغمض عينه ليطرد شبح ما لم يصدّق رؤيته. همّ بالاستدارة ليعبر بالسلّة إلى بيته. حاصره دويّ عجلات فولاذية تقترب من ظهره و عويل زوجة الخبّاز وهي تغادر بيته نائحة. لم يحرّك ساكنا في بادئ الأمر ثمّ اِلتفت إلى الهدير المزمجر الذي بدأ يتعاظم خلفه. أراد أن يقفز لينجو بنفسه، فخانته رجلاه المثقلتان. كان قطار الخامسة يخفي قطار السادسة وراءه.
سقطت رأسه بقوقعتها في السلّة، خبزه في دمه و دمه في خبزه. تلاشى صوت القطار، سكن سعال عائشة بدون بخّاخ و صمت أنين أطفاله بدون خبز، فتجمّعت الكلاب السائبة حول جثّته تنهش لحمه و خبزه بهدوء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (*) البرباش: هي الصفة التي تطلق بالعامية التونسية على نبّاش النفايات."