مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المركز الرابع: الذاكرة المفقودة بقلم/ صبا حبوش (سورية مقيمة في السعودية)

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الرابع
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الذاكرة المفقودة
بقلم/ صبا حبوش (سورية مقيمة في السعودية)
هو... (1)
كانت المرة الأولى التي نصحو فيها سوياً، ويجمعنا مكان ضيق جداً كما حلمنا يوماً، لا أذكر أية تفاصيل أو أحداث، الزمن انطفأ من ذاكرتي وعادت مساحات البياض كيوم انزلاقي من رحم أمي.
كنا أنا وهي... كلانا بجانب الآخر، جمعنا مكان صغير جداً لا مجال فيه للحركة أو الانزياح؛ لذا كان وجهها الدامي مقابلاً لبقايا وجهي، أصابعها المتكسرة كانت تلف خاصرتي التي اخترقتها رصاصة سوداء، كنت مستسلماً لها و كأني أملك كل الحيوات في هذا الكون.
حين فتحت عينيها تبسمت لي بلهفة، وكذلك أنا، لم نكن نشعر بجراحنا الدامية، الرصاصة داخلي كانت نقشاً وردياً ليس إلا... والدماء المتيبسة فوق وجنتيها لم تكن سوى أحمر شفاهٍ زاد جمالها جمالاً آخر...
-كيف وصلنا إلى هنا؟... لم أعد أذكر شيئاً.
- وأنا مثلكَ تشوشت الصور أمامي، ولا أذكر شيئاً، لكني سعيدة أني لا زلت أذكركَ.
-وأنا أذكركِ.
- كأنّ هذا النهر أجمل الأماكن التي عرفتها في حياتي... أتدري لمَ؟
-لأننا وُضعنا فيه معاً،  وكان لنا أكثر مما يرغب عاشقان، يراودني إحساس أنّا التقينا من قبل في السماء، غيوم كثيرة بيضاء كانت تعانق روحك وروحي، في يوم ميلادي طلبت مني العصافير الحائمة أن أضمر أمنية، أغلقت عينيّ وأخذت شهيقاً طويلاً وفي قلبي ذاب اسمك، تمنيت أن يجمعني الله بكِ مجدداً، بحثتُ عنك بين الأرواح المسافرة والضائعة لكني لم أجدك، واليوم بعد رحلة استمرت سنوات أصحو وأراك أمامي، أية أمنيةٍ تلك التي تحققت وقربتنا لدرجة أن يجمعنا متر واحد!
- شعرت بأمنيتكَ تلك الليلة، وصلني صدى قلبك، كان كالنهر الذي يصب في عمق البحر، اختلط صوتك بصوتي، وأحسست بشوقك، فأنا أيضاً كنت غريبة بعدك وتائهة، همتُ في جميع السموات باحثة عنك، واليوم وصلت بعد تعبٍ لأجدك أمامي.
-هل التقيتِ أحداً يعرفنا هناك؟
- لا، كانت جميعها أرواحا غريبة، أتت من أماكن أخرى لا نعرفها أو تعرفنا.
-دعينا إذاً نصلي لله، لعلّ ذاكرتنا تعود لنا من جديد.
-أنا سأصلي لله كثيراً حتى ترحل عنا الذاكرة إلى غير عودة.
- ماذا تعنين؟
-لا شيء... عانقني...
هي... (2)
اسمي زينب، لم أفقد الذاكرة يوماً، بل على العكس كل يوم تزيد الصور داخل مفكرتي، وتكبر الأحداث أكثر فأكثر، أقرّ أن هذا الأمر لا يسعدني، لكن لا مفر من ماضٍ عشته و لا يزال يتربص بي كلما تلمست دمائي وشاهدت تلك الرصاصة تستقر في خاصرة خالد... حبيبي...
نعم حبيبي... كان ابن حارتي، بيته قريب من بيتي، يكبرني ببضعة أعوام، وأصغره بنظرة واحدة من عينيه السوداوين... كنا صغاراً، لم تعنينا التفاصيل كثيراً، قرّبتنا مشاعر بريئة لا تحمل أي صوت أو لون، كنا قلبين فقط...
كبرتُ وأصبح باستطاعتي قطف أزهار الخوخ والمحلب، وإهداءها إلى خالد كل صباح، إلا ذلك اليوم؛ كنت في طريق عودتي من المدرسة، لمحني أبي من بعيد أحدّثه أمام باب منزله، حين وصلت إلى البيت، اختلطت عليّ الألوان، بين أزرق وأحمر وربما أبيض أو أسود، ضربني بقسوة  ورماني أرضاً، ظننت أنّ خوفه عليّ كان سبباً لفعلته، لكن بعد أيام أخبرتني أمي أن خالداً لا ينتمي إلى طائفتي، رغم أننا مسلمون جميعاً، لكن كل منا له معتقداته وأفكاره الموروثة.
في البداية لم يكن باستطاعتي تقبّل الفكرة كواقع غريب مرّ بي للمرة الأولى، حتى أصبح طريقي بعيداً عن منزل خالد، لم نعد نهدي الورود، باتت طرقاتنا قصيرة، لم نعد نسلك تلك الدروب الطويلة لنسرق المزيد من الوقت سوياً.
كنت ألمحه، فأغيّر وجهتي، لكن قلبي كان عنيداً؛ يركض خلف خطواته، يقتفي آثاره في دعسات طبعها الحنين، وبات زهر المحلب رائحتي؛ لأنها رائحته المفضلة.. هذا السر الجميل رغم شقائه، كان سعادتي، ولا سيّما حين تلتقي عيناي بعينيه أحياناً، وأرى الحب لم يمت فيهما، لا يزال التماعهما ذاته واللهفة ذاتها.
وقع الأحصنة الغريبة ذلك اليوم كان مهيباً على مسامعنا، لا نعلم من أين جاءوا، وكيف وصلوا إلى أعتاب بيوتنا، لم يفتحوا أفواههم، ولم ينطقوا بكلمة ولو عبثاً، اكتفوا بنثر بعض الصدأ فوق حانات عقولنا، وتركوا قرب كل بئر كأساُ من فخار وأخرى من زجاج، وما لبثوا أن اختفوا خلف ضباب غبارهم.
لم ندرك أنّ تلك الكؤوس كانت تعاويذ شرر، فشربنا منها الكثير حتى امتلأت قلوب أهل الحي بالأحقاد، جفّت مياه آبارنا، وترنحت أعناق الزهور، انمحت الألوان وغطى الرماد حدائقنا  وقرعت طبول الموت بلا سابق إنذار.
رجال تركض وسهام تطير بيننا، ولا نعرف السبب، أطفال تسقط بين الأقدام، ودماء تغسل الأرض لكنها لم تطهّر الجراح بل زادتها وجعاً.
لم أصدّق عينيّ، عندما رأيت أهل حيّنا يذبحون بعضهم، أبي وأخوتي وخالد وعمومته، جيراننا، بائعو الحي، و جدران البيوت، كلهم شربوا من تعاويذ الحقد، أشلاء، أصوات، وجثث، واقع لم يكن حلماً ، بل حقيقة... النساء خلف الأبواب غدت أبواباً، والشرر لم يميز بين طفل أو امرأة، قطع جميع المسافات ورمى بفتائل الزيت وسط اللهب.
شعرت بتلك الطعنة في صدر أمي، وصراخ أختي لايزال يدوي في أذني، تلك الرصاصة التي أطلقها أبي استقرت في خاصرتي قبل أن يضمّها جسد خالد، غدونا حجارة تحت ركام منازلنا، وبين الأحياء هدأت الحياة... متنا جميعاً... حجراً وبشراً...
عادت الخيول من جديد، ترجّل الملثمون وانتشروا بين أشلائنا، هناك في العراء حفروا حفراً كثيرة، لكن أعدادنا كانت أكبر من حفرهم، أرادوا التخلص منا بوقت وجيز، فاقترح بعضهم رمي باقي الجثث في نهر المدينة... وكان خالد قربي...

رموه بقسوة فارتطم رأسه بحجارة رمادية، وفارقته الذاكرة لكنها لم تفارقني؛ لأني ارتميت على جسده، صعدت أرواحنا إلى السماء، والتقينا من جديد، افتعلت المصادفة لألتقيه، وأحبه من جديد بعيداً عن أية ذاكرة، لكن ما كنت أجهله أن رائحة المحلب العالقة على أصابعي لم تخطئ طريقها إليه، وكانت الذاكرة المفقودة كذبة بيضاء أحبّها  كلانا إلى الأبد.