ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز العاشر
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
خلف الجدار
بقلم/ يمام
فيصل خرتش (سوريا)
– لكأنَّ الجدارَ المتصدِّعَ ينقصُهُ سقوطُ القذائفِ قريباً منهُ،
أشعرُ أنَّهُ سينهالُ علينا في أية لحظةٍ... بكلِّ الأحوالِ لا تبقَ قريباً منُه
ولا تقِفْ بجوارِ النافذةِ ريثما يتوقفُ القصفُ. أتتوقَّعُ
أنْ تكونَ الطَّريقُ سالكةً حينَ رحيلِنا؟ أمْ أنَّها ستقطعُ كما العادةِ! أخشىْ
أنْ يزدحمَ المعبرُ أو أنْ يتمَّ تعليقُ المرورِ فيهِ فيفوتُنا موعدُ الطائرةِ،
يتحتَّمُ علينا الرَّحيلُ قبلَ يومينِ تحسباً لأيِّ طارئٍ. قالتْ لي أمُّ سالمٍ
نقلاً عن زوجِها بأنَّ الباصَ الذي سيقلُّنا نحوَ الحدودِ اللبنانيةِ لا يسمحُ
للمرءِ بأنْ يأخذَ إلا ثلاثَ حقائبٍ متوسطةِ الحجمِ. وضعْتُ المصوغاتِ وبعضَ
الثيابِ الجديدةِ، أمَّا الباليةُ فأعطيتُها لأمِّ سعدٍ، كمْ فرحَتْ بها
المسكينةُ! ودعَتْ لنا بالتَّيسيرِ والسلامةِ. أوه، تذكَّرْتُ صورَنا التذكاريةِ
وصورَ الأولادِ، سأضعُها الليلةَ إنْ شاءَ اللهُ في الحقيبةِ، كمْ أكدَّ عليَّ لؤي
ألا أنسىْ أيَّاً منها. ذكِّرني قبل السَّفر أنْ أضعَ دواء الضغط و...
أبو لؤي! أشعرُ أنَّني أكلِّمُ نفسْي، ما بالكَ لا تُبدي أي ردَّ
فعلٍ! ما بكِ عزيزي؟
أتبكيْ! بعدَ هذا العمرِ! هيَ
منْ عادَتْ لتثيرَ أشجانَك أليسَ كذلكَ؟! لا تنظرْ إليها، انظرْ في عينيَّ، أمسكْ
كفِّيْ، ألم نتفقْ أنْ تنساها، الحياةُ لنْ تتوقفَ عليها. لؤي فعلَ المستحيلَ
ليحصلَ لنا على تأشيرةِ السَّفرِ، هي فرصةٌ لنْ تتكررَ، يقولونَ بأنَّ تركيا لا
تعطيْ تأشيرةً في هذهِ الأيامِ إلا لشخصٍ واحدٍ من كل مئةٍ، فكِّر كمْ نحنُ
محظوظون. أتعلمْ أنَّ ابنتيكَ اعتقدتا بأنَّني أمزحُ عندما أخبرتُهما أنَّك مترددٌ
بالرَّحيل بسببِها!
– انظريْ إليها هناكَ، لا، أعلى قليلاً، على الرفِّ الأيسرِ، كانَ
هذا أولَ كتابٍ اقتنيتُه، كنتُ في العاشرةِ من العمرِ حينَها، رفضَ أبي رحمهُ اللهُ
أنْ يهبَني ثمنَه دفعةً واحدةً، عمِلتُ معهُ طيلةَ عطلةِ الصَّيفِ، نعمْ ثلاثةَ
أشهرٍ كاملةٍ حتى استطعتُ شراءَه، شعرتُ حينَها وكأنَّني اشتريتُ منزلاً فخماً لا
كتاباً صغيراً يروي حكاياتٍ بوليسيةٍ. وهناكَ على الرفِّ
الأوسطِ، المجموعةُ كاملةٌ اشتريتُها عندما كنت في الثانويةِ، معاجمٌ وأطالسٌ، صار
رفاقي يلقبونَني بالبروفسورِ عندما كنت أُملي ما اقرأُ منها عليهمْ. أتضحكينَ!
أأخبركِ إذاً عندما صِرتُ شاعراً في أولِ سنتينِ من الجامعة، أتصدقينَ؟ أنَّني
قرأتُ وقتَها ما يقاربُ التسعينَ ديواناً شعرياً، كنتُ أجلسُ ورفاقيْ في السَّاحة
المقابلةِ للكليَّةِ، نقرضُ ما حفظناهُ من شعرٍ، يرافقنا عزفُ عودٍ لعبدِ
السَّلامِ، أتذكرينَه؟ الأسمرُ النَّحيلُ ذو اللحيةِ الخفيفةِ. كانَ الشِّعرُ
القوميُ منتشراً بقوةٍ في تلكَ الفترةِ. عندما أحببتُكِ تغيَّرتْ ميولي، انكببتُ
على الرواياتِ العاطفيةِ، أتذكرينَ كم أهديتُك منها! الكتبُ
المتراصَّةُ في الرفوفِ الأربعةِ السُّفلية مراجعٌ تخصُّ أبحاثي عندما كنتُ طالباً
في الدِّراساتِ العليا، أمَّا القسمُ الأيمنُ
فيضمُّ دراساتٍ أدبيةٍ ونقديةٍ تخصُّ عمليْ، ما تبقىْ كتبٌ تاريخيةٌ
وأدبيةٌ وقصصٌ ورواياتٌ عربيةٌ وعالميةٌ...
أتدرينَ كمْ كتاباً يرقدُ على رفوفِها!
– لا أدريْ، ربما ألفاً!
– بل قولي خمسةَ آلافٍ أو يزيدُ.
– أقرأتَها كلَّها؟
– جُلَّهمْ. وسأكملُ ما
تبقى منهم ما دامَ فيَّ نبضٌ.
– لم أفهمْ!
– سأوصلكِ الخميس إلى مطارِ بيروتٍ، سأتأكَّدُ من استلامِ لؤي لك في
اسطنبولِ، وأعودُ أدراجيْ. ستبقينَ هناكَ حتى تنتهيْ الحربُ، ثمَّ سنكونُ هنا معاً
مجدداً نتقاسمُ ما بقيَ منَ العمرِ.
– لا أفهمُك! أتُبديْ بقاءَكَ بجوارِ مكتبتكَ على حياتكَ! العالمُ
لا يخلوْ من الكتبِ، تستطيعُ هناكَ تحميلَ المئاتِ من الكتبِ الالكترونيةِ بل
الآلافِ.
– أتقارنينَ الحيَّ بالجمادِ، هنا عِشتُ يا رقيَّة، بين هذهِ
الرُّفوفِ وصفحاتِ الكتبِ، تنفَّستُ رائحتَها، حفِظْتُ أسرارَها، حفِظَتْ أسراريْ،
شابَ شعريْ وأنا منكبٌّ عليها... ثمَّ ماذا لو اقتحمَ بيتَنا لصوصُ الحربِ
والبلطجيةُ، ماذا لو عاثُوا بصفحاتِها فساداً، ماذا لو مزَّقُوا بعضاً منها؟!
سأتمزقُ، الموتُ أهونُ عليَّ يا رقيَّة من أنْ أرىْ نازلةً تحلُّ بهمْ... اذهبيْ يا رقيَّة لابنكِ، ستكونينَ بأمانٍ هناكَ، أما هذهِ المكتبةُ
فسأمكثُ بجوارِها، سأحرسُها، سأحميْ هذهِ الكتبَ من العبثِ ريثما تتوقفُ الحرب.
في اليومِ التالي كانَ الجيرانُ، وأهاليْ الحيِّ، والأصدقاءُ، والأهلُ
في الدَّاخلِ والخارجِ، يتكلمونَ عن السَّيدِ عوض الجاسم الملقبُ (أبو لؤي) كيفَ
وُجِدَ ممسكاً بيد زوجتهِ رقيَّة تحتَ أنقاضِ الجدارِ الذيْ تهدَّمَ على رؤوسِهمْ
بفعلِ قذيفةِ هاونٍ.