مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المركز التاسع: انتهت بقلم/ صبا محمد وليد حبوش (سورية مقيمة في السعودية)

المركز التاسع:
انتهت
بقلم/ صبا محمد وليد حبوش (سورية مقيمة في السعودية)
عندما مضت دقائق الساعة الحادية عشرة، ارتديت فستاني الليلكي المرصّع بالنجوم، وفوق شعري ثبّتُ تاجاً من السوسن صنعته قبل عام من الآن.
حاولتُ التسلل بهدوء خوفاً من تنبيه أحد لخروجي، لكن لا مفر فقد رأتني جدتي، لم يكن أحد يفلت من بين يديها.
استطعتُ الإمساك بمقبض الباب وحين هممت بالمسير، تذكرت أنها فارقت الحياة منذ خمس سنوات!
مسحتُ وجهي بالنور وأسرعت قبل حلول منتصف الليل، يجب ألا أتأخر عن الموعد.
 من تلة إلى أخرى، من سهل إلى جبل، من رصيف إلى شارع كنت أسير متبخترةً بفستاني ونجومه البراقة في حين أغراني الهدوء الذي عمّ الطرقات والبراري، وكأنّ الصمت رمى جلبابه فوق الأفق!
مزقّتُ تلك الأفكار، وعدت إلى مهمّتي الأساسيّة يجب ألا أتأخر عن الموعد، فالدعوة للجميع والمكان واسع، لكني كأي إنسان يتمنى الأفضل؛ لدي رغبة في الوصول باكراً وحجز مكان قريب من الحلبة... دقيقة  واحدة وأصل الساحة، البوصلة الروحية تشير إلى اليمين!
أمامي مساحات شاسعة من العشب الأخضر، وخلفي بساتين وكروم من عنب ولوز وتفاح، ويميني بئر ماء يترقرق على فخارة كُسر نصفها.
توقّفتْ البوصلة في مكان أشبه بالأمس؛ وضّعت في بدايته لافتة كبيرة من صخر فارغةً تماماً من أية رموز، حاولت جاهدة السير نحوها لكن المسافة كانت أكبر مما توقعت، خلعت حذائي الزجاجي خوفاً من أن يُكسر، وبدأت بالجري قبل أن ينتصف الليل.
محاولةً ابتلاع لهاثي كنت أستنشق المزيد من الهواء، جثوت بفستاني الطويل على حجر أسفل شجرة سرو، فقدت التركيز قليلاً ثم عدت بناظري نحو البعيد، كانت الصخرة  قريبة جداً هذه المرة وكنت أرى بوضوح عمّالاً يمسكون المعاول وينحتون صدرها الصلب.
أكملت طريقي حتى أصبحت قدمي ملاصقة لها، اختفى العمال دون أن تختفي معاولهم، ولم يكن صعباً علي أن أقرأ اسم "سوريّة " بمنحوتتهم!
دخلتُ سوريّة التي أشارت إليها اللافتة، كانت خاوية من الأصوات والألوان، ظلام مخيف يلفّ بها من الجوانب الأربعة، لا شروق ولا غروب وحدها النوارس الجائعة تصدّرت ضجيج السماء!
ارتديتُ مجدداً حذائي، وتابعت السير بخطوات أسرع؛ فالساعة  في القمر تشير إلى الحادية عشرة  والنصف.
مراراً تعثرت قدماي ببقايا من أثاث وأشلاء وصور، الأشياء لم تكن تنطق؛ تجمّد بعضها عن الحركة وبعضها كان مصاباً بالذهول!.
وصلت ُبوابة كبيرة كُتب عليها بوضوح "الحلبة"، بالكاد تزحزح الباب تحت قوة ضغطي عليه، كان حجرياً من الطراز المتعب، ما لبث أن لفحني ضوء النار المتجمهرة في الوسط، بدأت الأصوات تعلو أكثر فأكثر، جماهير غفيرة حبست المكان والمدرجات، لا مكان فارغ، الكل هنا، سيوف تصطك ببعضها، طعنات تسدد لأجسادٍ متناحرة، وطيور في السماء ترمي شعلاً من النار فوق المراجل المشتعلة.
اقتربت قليلاً من إحداها فرأيت داخل اللهب بيتاً يصرخ منادياً سكانه، وإطار صورة يستنجد بها بعد أن رحلت وتركته، وفي الزاوية اليمنى لمحت عربة خضار تشتعل مستغيثة بصاحبها الذي وصله رذاذ جمر من الشعل المتطايرة.
آلمتني أصوات الحنين تلك وعصرني الألم فازداد قلبي حناناً، لم يكن باستطاعتي فعل شيء، فالاقتتال كان مسيطراً على الحلبة والدماء ملأت المكان.
مجدداً ظهرت لي جدتي وأرشدتني إلى طريق العبور والخلاص من المراجل، انتقلتُ إلى الطرف الآخر بيسر، فعلمت أني لم أكن الوحيدة بفستان ليلكي مرصّع بالنجوم، فقد اكتظّ الجسر بأطفال يرفرفون بأجنحة ليلكية والأرض تتمايل وتهتز بجميلات صغيرات ارتدين فساتين النجوم أيضاً،
عادت الأرض للاهتزاز مرة أخرى لكن بصورة أكبر، كان الجسر يرتفع فينا عالياً لدرجة استطعنا أن نرى الحلبة بمراجلها كأنها قطعة جمر مشتعلة ليس إلّا...
استدارت جدتي نحونا و طلبت من الجميع خلع تيجان السوسن و تحرير نجوم الفستان الليلكي، سارعنا إلى تنفيذ الأمر، وحين انتهينا كان القمر قد أعلن انتصاف الليل وأضاء العتمة الحالكة.
صرخت جدتي بأعلى صوتها: " ارموهم عالياً جداً، فالنجوم اشتاقت إلى موطنها والسوسن ينتظر أن يطأ أرضه..."
رفعنا أيدينا وأجسادنا وعلقنا النجوم في أماكنها، فتطايرت من بين أصابعنا أوراق السوسن وغمرت جمرة النار الصغيرة في الطرف الأسفل، فاندثرت المراجل وخمدت نار الفتنة، وبدأت رائحة التراب العطرة تتغلغل إلى أنفاسنا عوضاً عن عفونة الأجساد.
شعرنا بالاهتزاز المخيف من جديد، وكأنّا بتنا أقرب إلى الأسفل بمحاذاة الحلبة، عبرنا إليها فصادفنا بيتاً يبتسم ومدخنته العالية تنفث رائحة الألفة، تقدمنا قليلاً فكان في استقبالنا بائع طيب خلف عربة خضراء مليئة بورق السوسن ، قدّم لنا أقداح ماء الورد، فانتشينا بخيوط الفجر التي لاحت بعد رحيل النجوم.
أما نيسان فقد وصل بعدنا بقليل، نثر بعصاه الصغيرة بعض القطرات، فردم كل آثار النار والموت، وأصبح بإمكان كل الناس هناك التشبث بأديم الوطن دون خوف من الرحيل.
إلا أنّ الصورة تشوشت أمامي بسرعة وبدت كأنها ومضات متتالية، وتعالت أصوات غير مفهومة من بعيد!
صحوت من نومي على عجل لأجد نفسي في سريري، والزغاريد في الخارج تقطع سحب المطر العابرة، اتجهتُ إلى النافذة فرأيت الناس ترقص فرحاً؛ رجالاً تبكي، نساء تزغرد، وأطفالاً يلعبون بالسوسن، والكل يصرخ غير مصدق "انتهت الحرب"... انتهت الحرب"...!

27-5-2016