المركز
العاشر:
ومن الإشفاق ما
قتل
بقلم/ د. سمير
قنوع (سوري مقيم في قطر)
أمسكَتْ بجواز السفر وسألتني:
من أين آتٍ؟
قلت من دمشق.
وبانت في لحن سؤالها التالي علامة استقراء غير مبرر، فالجواز أصلاً في
يدها:
سوري؟!
أجبت بنعم.
بعينين صحراويتين أمعنت النظر في وجهي متفحصة تطابقه مع صورة الجواز
ثم نظرت في الحاسوب أمامها وهي ترسل إليّ بسؤال مهلك: "وكيفها" سورية؟
أربكني سؤالها لثوان ثم أجبت وأنا غير مقتنع بصدق إجابتي:
الحمد لله.
خَتَمت الجواز وناولتني إياه قائلة:
أهلاً وسهلاً.
كان السائق المكلف بانتظاري في المطار مصرياً، ويحمل ورقة كبيرة رفعها
بين الحضور كتب فيها اسمي، كي نجد بعضنا بعضاً، وبحرارة بالغة استقبلَ مُحدثُ
الحرية المصرية العبدَ السوري الشريدَ، أنا، سائلا إياي عن صحتي وصحة أهلي في
شقيقة مصره، سورية.
(الحمد لله) جملة ليس لي غيرها من إجابة لا تشبع رغبة في رد ولا تواسي
حسرة في قلب.
هناك، وفي منزل صغير منحوني إياه، وقفت في النافذة أستطلع إحداثياتي
في بلاد الرمال الممتدة مرة أخرى، بعدما ظننت أنني لن أكون مضطرا للعودة إلى دول
الخليج بعد آخر مرة.
قالوا لي أن آخذ قسطا من الراحة اليوم، وسيأتي أحدهم لأخذي إلى مكان
عملي في صباح الغد التالي.
"خذ قسطا من الراحة"، عجباً، ألم يعرفوا أن الراحة تعطى ولا تأخذ، بعكس ما قيل يوما عن الحرية؟
نزعت حذائي وقميصي، ولأول مرة منذ وعيي أرتمي على سرير غريب دون تفحصٍ
في مدى نظافة أجزائه وزواياه.
لم يعد لتفاهاتي الصغيرة القديمة وزن في ميزان معركتي اليوم.
حاولت الإغفاء فما استطعت، نهضت من سريري، لبست قميصي، انتعلت حذائي
وغادرت إلى الشارع.
كنت لمحت في مدى نافذتي مجمعاً تجارياً ضخماً ليس ببعيد، مشيت إليه
تحت لهيب شمس خلتها لن تعاودني إلى الأبد، وعلى بعد خطوات داخل المجمع، نصبَ
شيخونُ إحدى جمعيات الإغاثة إعلانا وأمامه طاولة صغيرة وبعض دفاتر الإيصالات، كُتب
في الإعلان "أغيثوا أهلنا وأشقاءنا في الصومال".
تباً لمجاعة صومال لا تنتهي، قلت في نفسي، وإذ بشيخون آخر على بعد
خطوات من الأول وأمامه الأدوات نفسها لكن إعلانه:
"أغيثوا أهلنا وأشقاءنا في سورية" وزينت الإعلانَ صور قتلى
في الأحداث الأخيرة.
لم يكن حلماً، لم يكن كابوساً يأبى أن ينتهي، إنها الحقيقة، والحقيقة
فقط، الحقيقة المُرّة في وصول الحال بنا إلى هذه المهزلة الإنسانية وإلى تلك
الدرجة من العهر السياسي.
نظر صاحب الإعلان المؤلم في عيني مطولا، عرف على الغالب أنني سوري، وأدرك
أنني قُتلت وشبعت قتلاً من كل ما رأيت وما أرى وحتما مما سأرى، غادرته ومشيت إلى
داخل المجمع بخطوات ثقيلة وسؤال يدق في رأسي: من أوصلنا إلى هنا؟ كادت الغصة
تخنقني.
الأشقاء المصريون في مكتب الإدارة كانوا مُتعاونين جدا على إنجاز
أوراق إقامتي بأسرع ما يمكن، هم مدركون تماماً مدى قلقي على زوجتي وأطفالي في
سورية، ويعرفون كم أنا في حاجة للإسراع في إجراءات استقدامهم بعد حصولي على رخصة
الإقامة.
كانت كلمات المؤاساة والمؤازرة في مكان عملي تجتاحني من كل صوب، من
العرب والأجانب وحتى الهندي والنيبالي منهم، كلهم الآن يناقشون الوضع في سورية،
رغم أن بعضاً منهم وحتى وقت قريب لم يكن يعرف موقع سورية على خريطة العالم، حمدا
لله أصبحنا ذوي شهرة عالمية.
فور صدور إقامتي، توجهت إلى دائرة الجوازات لاستخراج تأشيرات استقدام
لعائلتي، وسط إشاعات تفضي إلى أن الحكومة قد توقف استقدام السوريين في القريب
العاجل، وحضر ليقابلني عند باب دائرة الجوازات مديرُ العلاقات الحكومية التابع
لمركز عملي، بغية مساعدتي في إنجاز أمري.
تفحص أوراقي ثم قال: للأسف قد لا تستطيع تقديم هذه الأوراق كما هي
اليوم، فعقد الزواج غير مصدق وشهادات الميلاد كذلك، كان عليك تصديقها في بلدك، لكن
اسمع، سنأخذ رقم انتظار ونحاول، الأمر هنا يعتمد على الموظف فإذا كان غير ذي خبرة
واسعة أو متساهلاً ووقع الأوراق وقَبِل دفع قيمة استخراج التأشيرات فستأخذ الأمور
مسارها الطبيعي.
فعلنا كما ارتأى.
جلسنا ما يقارب الساعتين في بهو الانتظار وعيوننا تراقب تقدم الأرقام
باتجاه رقمنا، ولم نكن نعرف عند أي من الموظفين سيأتي رقمنا.
قال مرافقي هامساً:
الموظفون الشباب هنا متعاونون في غالبيتهم، لكن عسى ألا يأتي دورنا
عند ذلك الكهل، لأنه عسير المراس، "دقة قديمة" ومعقد.
كانت هيئته موحية فعلا بما قاله المصري، لحيته الطويلة وشارباه
الحليقان وعيناه الجاحظتان وشفاهه الغليظة، كل ما فيه كان يقول: أنا متشدد، أنا لا
أهادن.
في البهو وأمام الملأ كانت شاشات تلفزيون عملاقة تبث أخبار قناة
العربية لتسلية المنتظرين، وكانت صور القتلى في شوارع سوريا تحبس أنفاس الجميع
عربا وأجانب، ومع كل مشهد كنت أخسر قطعة من روحي المريضة.
ظهر الرقم أخيرا -ويا لتعاسة اللحظة- عند شيخنا الجليل.
قفز المصري إليه فتبعته وبدأ المصري يشرح طلبنا، رفع رأسه فرأى كلينا
عند منصته، فزجر المصريَّ قائلا:
لا تقفا كلاكما أمامي، يمكن لواحد منكما أن يبقى فقط، هيا وليرجع
الآخر، من هو صاحب العلاقة؟
تراجع المصري وتقدمت إلى الموظف الذي تناول الأوراق وأراد أن يباشر في
تفحصها، إلا أن شهقة واحدة موحدة صدرت عمن كانوا ينتظرون وينظرون إلى الشاشات في
البهو شدت انتباهه، أطل برأسه نحو الشاشة، كانت قناة العربية تعرض مشهد قصف
فانهيار مئذنة، عرفت المشهد طبعا والذي تكرر ألف مرة منذ البارحة.
قال لي الموظف: أين هذه المشاهد؟
فأجبت وحسرة تكاد تلجم لساني:
هذا في بلدي، سورية
فقال: أستغفر الله العظيم، أولا يستحون من رب العباد.
زفر زفرة وعاد ليكمل تفحص الأوراق، لكن يده توقفت فجأة، ودون أن يكمل
النظر في الأوراق أمسك بالقلم ووقع بالموافقة على طلبات التأشيرات، وأعطاني
إيصالات الاستلام قائلا: أمسك، التأشيرات ستكون جاهزة بعد ثلاثة أيام، الله يستر
على أهلك.
شكرته وانسحبت من المشهد إلى خارج القاعة وقشعريرة تسري من رأسي إلى
أسفل قدمي، حتى كدت أنسى صديقي المصري الذي تبعني مهنئاً، ركبت في سيارته ومشهد
المئذنة لا يفارق مخيلتي.
"لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من قتل نفس مؤمنة"،
كان ذلك الحديث الشريف حجتي فيما سبق دفاعاً عن إمكانية هدم بيوت العبادة إن توارى
بها أناس أرادوا الشر بالعباد، فالمسجد يمكن أن يعاد بناؤه، لكن الميت لا يعود.
ولكن ماذا عن قتل نفس مؤمنة؟
فلسفة هذا الحديث أخذت في خاطري مأخذا آخر هذه المرة، فمن الذي يتربص
هذه المرة بمن، ومن يقتل من؟ سألت نفسي والألم يعتصر مهجتي.
المضحك والمبكي في آن معا، أن المئذنة شفعت لمن لم يكترث لندائها
يوماً، وفي دقائقَ لا شك عصيبة.
أجل شفعت لي أنا، أنا من قتلني – والله-مشهد سقوطها رغم كل فكري
اللاديني.
فرت دمعة من عيني.
قدري أن تقتلني المئذنة وتحييني في آن معاً، وقدرٌ على ما يبدو أن
يقتلني الإشفاق أيضاً ثم يحييني.