مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المشاركة رقم 5 (مارس 2016): افتقاد

المشاركة رقم 5
افتقاد
بقلم/ رانيا مسعود ـ مصر
يصرُّ حين تنغمسُ برأسها بين ذراعه وصدره محاولةً أن تجتَرَّ منه لحظة الأُبُوَّةِ المفقودة أن يهمس إليها بأخطائها في فهم الأب طيب القلب، الذي شاء اللهُ له أن يكون أقلَّ منه علمًا وحظًّا في الدنيا. تتغافل ما يحاولُ إقحامه على مشاعرها، ويبثه في نفسها من محاولاتٍ نَجَحَ في إفهام الأب ذاته بها وكذلك المحيطين.
كانت ذات العقود الثلاثة تهتم لهذه الزيارة وتحسبُ لها حساباتها الخاصة.
-                 يدعوني للقائه في منزله! (تقول في نفسها) هو الاحتياجُ إلى مَن تبادلُهُ الحديث أو تستمع إليه بإنصاتٍ، وتشاركه مستجدات حياته بعد المعاش.
تُسائله عن الأهل جميعًا. تحاولُ أن تستعيدَ رؤية كل مَن ماتوا ولا يغيبون عنها. حواديتُ الماضي لا تنتهي. تستمعُ إليهِ في اهتمامٍ؛ فقد حلَّ محلَّ الغائب عنها بصدره الحنون لسنواتٍ في الغربة، حتى وإن اتصلت بلحظاتِ اللقاء الذي لا تطيقُ فيه رؤيةَ صورته العابسة، وتستمعُ لأوامره، وتمل من جفائه واتهاماته بنظراتٍ تغذت في فترة غيابه بما بثته الكلماتُ الحاقدة عليها من سُمٍّ في أذنه التي اتصلت بقلبه ووجدانه ليحملَ لها يومًا عن يوم كراهيةً تفوقُ كل الحدود.
أول ما فعلت حين التقت العم أنْ ارتمت في أحضانه، تتمنى أن يُعيدَ إليها ما تفتقدُ من عاطفة تجعلها تنزف دمعًا لا تشعرُ به سوى وسادتها التي ملت تجفيفه من على خديها في كل ليلة. جلست إليه في حديثٍ طويلٍ وهي تراقبُ بحذر عينيّ ابنته التي ربما تأخذها الغيرة هي الأخرى لترى في أحضانِ العم الغائب حين يحضر نفس الشعور المفتقد.
 – تبادليني؟؟
سؤال براءة الطفلة أختها التي أطلقته حين كنا جميعًا بهذه الطفولة، وهذه البراءة المعهودة، نرى في آباء الغير ما لا نراه في آبائنا.
الطفلةُ صارت الآن أمًّا ولها ثلاثة من الأطفال. وما تزالُ هي ذات العقود الثلاثة تتخبطُ في مشاعر الأبوة المفتقدة والأمومة المحطمة التي تجترها من الآخرين.
-                 قبل أن أتزوج أريدُ أن أشعرَ بإحساسِ الأمومة والأبوة منهما. أريدُ أن أشعر أن لي أبًا وأمًّا مثل الجميع.
عبارة حملتها أوراق أحد دفاترها الذي قرر أن يحفظ سرها الذي تكشفه عيناها في كل مرةٍ ترى فيها أبًا يحتضنُ أبناءه، وخصوصًا بناته. أصبحت لا تستطيع السيطرة على هذه النفس التوَّاقة التي يظن بها الجميع سوءًا حين تحملها عيناها إلى مواضع صدر كل رجلٍ تتحدث إليه، ولا ترى في نفسها القدرة على مقاومة عينيها اللتين تذهبان إلى صدره، وكأنها تعلن عن حاجتها إليه.
هل يا ترى تستطيعُ تلك اللحظات بين ذراعي العم أن تغطي حرمان سنواتٍ من الرغبة في الحصول على هذه العاطفة التي تتمنى إشباعها قبل أن تشبع غريزتها المُلحة في أن تصبح أمًّا؟
قال لها: أبوكِ قلبه طيب. حاولي تفهميه. كلٌّ مُيسر لِمَا خُلِق له. الكنَّاس يكنس الشارع، والـ..
قاطعته بحنانٍ تريده أن يتوقف عن هذا القول. هي لا تشعر أن عمها أفضل من أبيها إلا في هذا الحِضن الذي تتمناه منه. ومع ذلك يصرُّ العم أن يُفهِمَها وأن يُفهِم الجميع إنها ترى أباها أقل منه شأنًا، فلا تُعيرهُ أيَّ اهتمامٍ. لا تريدُ إفسادَ تلك اللحظة التي ذهبت من أجلها في إعادة نفس المأساة إلى صدرها المتقد همًّا. تعودُ برأسها وتنتزعُ يدها وذراعها بخفةٍ من خلفه بعد أن كانت تُطَوِّقُه. تُغيِّر الموضوعَ وتعيدُ النظر إلى ابنته التي تراقبها جيدًا كي لا تثير فيها ما قد يُثارُ بداخلها هي نفسها من أسئلةٍ حين يحتضنها عمها ويُجلسها إلى جواره متعجبةً من تبادل الأدوار العجيب.