بقلم: ندى علي فجراوي (تونس)
لم تكن الحياة يوما بهذا السواد في عينيها،
لا يعني هذا أنها لم تكن يوما قاتمة لكن ها قد تراكم السواد عليها اليوم كحيطان
بيت خرب.
كانت تنظر في المرآة بعينين مذهولتين كأنّها
تسأل انعكاس وجهها الكئيب عن سرّ هذه التعاسة.
للحظة أحاطت بها الجدران من كل حدب و صوب، تخيلت
نفسها و قد انتفخ جسدها و وجهها تدريجيا و أصبح يغطّي الحمّام بأكمله، للحظة تخيلت
وجنتيها بحجم كرتين كبيرتين قد قطعت أنفاسها و خنقتها...
لم يخرجها من صمتها اللعين سوى كلمات ترددت
في خلدها كمخالب حادة شقّت ذلك السكون و جعلت دموعها تنزف كجرح غائر لم يلتئم منذ
زمن؛ أتى من بعيد صدى صوت تلك الطفلة الصغيرة و هي تقول لأمها: أمّي انظري إنها
تشبه الدب، كما لم يغب عنها همس تلك الفتاتين الرشيقتين: أختي لا تنظري إليها ربما
تلدين مثلها رضيعا في قمة الضخامة، لكنّ أكثر الكلمات التي تجرعتها مرارة هي تلك
الكلمات التي لم تقل... كانت النظرات أسهما تتلقاها على جسدها العاري، كانت نظرات
تفترسها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها المكتنزتين كأنها مخلوق غريب وقع من عل على
أرض بلا إذن.
ربما لم يكن ذنبها سوى أنها كانت سعيدة جدا
بهذا اللقاء الذي طالما انتظرته فها هو ذلك المعجب الافتراضي أخيرا قد تقدّم لها
بطلب لقائها بعد أن أغرقها بتلك المراسلات التي حاكتها الصّدفة منذ شهرين، كانت
كلماته الجميلة قد فتحت لها عهدا جديدا مع الأمل، أمل تفضّل اجتراره بعد كلّ
انكسار يلاحقها عندما تنظر إلى جسدها في المرآة الطويلة. ذلك الأمل الذي أصبحت
تدمن كلماته كلّ صباح.
لم تستطع أن تخلد إلى النوم ليلة البارحة،
كان عقلها المشوش و مشاعرها المتداخلة يثيران الأرق، كانت تعيد كلماته الرقيقة
مجددا في عقلها الذي لم يتعوّد مثلها من قبل، لم تصدّق أنّ غدا صباحا سيكتمل ذلك
الحلم الذي طالما راودها. حتى أنها تخيلت للحظة أنّ مشهد لقائهما سينتهي بقبلة
صامتة يصفق لها الجميع...
كان الصباح مفعما بخيوط الشمس التي أسدلت
جدائلها على هذا اليوم الجديد في حياتها، أحست بأنها أميرة قد أمضت المخلوقات
اللطيفة ليلة البارحة بأكملها تخيط لها ثوبا يليق بهذا اللقاء؛ رشّت العطر على
عنقها كما تصنع بطلات الأفلام الرومانسية دائما بعد أن وضعت القليل من الكحل على
عينيها الجميلتين.
لم تزد على ذلك شيئا فقد كانت تؤمن أنّه
سيحبها لما هي عليه تماما كما كان يهمس لها في خشوع الليل.
لكن كثيرا ما تواطأت الحروف حتى الساقطة منها
لتنهي صفقتها مع الفرح، كان إحساس القرف من جسدها يلتهمها بصمت كلمّا لاحظت نظرات
الناس و همساتهم و هي تعبر بخطى حذرة تجاه ذلك الفارس الذي ينتظرها في أحد المقاهي
الراقية.
عادت تجرّ تلك الخيبة الثقيلة التي رأتها
مسبقا في أعين الناس كأنّها كائن لا يجدر به حتّى أن يحلم...
ربّما لم يكن ذنبها إلاّ أنّها ابتدعت حلما و
صدّقته و عانقته بيدين عاريتين.
كانت دموعها بين شهقاتها المتقطعة تحرق
عينيها التي لم يشفع لها جمالهما، بينما كانت تتفرّس انعكاس ملامحها و قد لمعت في
ذهنها ألف فكرة لتنهي هذه اللعنة.
ترى كم ستكون مريحة رصاصة واحدة في رأسها
المزدحم؟
ترى ما شكل الحياة و هي تسبح في فضائها كروح
حرّة أخيرا؟
رصاصة واحدة؛ ثمن بخس لتكسر هذه المقصلة التي
تُعدمها كلّما نظرت إليها لكنّها كانت أضعف من ذلك الثمن.
وضعت أصابعها المرتعشة داخل حنجرتها محاولة
إثارة أمعائها التي لا تشبع... أخيرا استفرغت كلّ ما في جوفها و وقعت مغشيّا عليها
كطير جريح.