طفلي توحدي
بقلم: دلال محمد
دهش العدواني (الكويت)
صرخة أعلنت بها
للأطباء أنك حي ترزق و أعلنت بها للعالم مجيئك لكن الأمر معي اختلف، فهذه الصرخة
تعلن لي بداية الشقاء و تخبرني بأن حياة ملؤها الحزن و العناء تنتظرني، كما أنها
لم تكن يا صغيري صرختك الوحيدة ، فحياتي معك في كل أحوالها صراخ...
حين نأكل و حين
نلعب و في كل حال كنا نصرخ، أنت تصرخ لأن شيئا ما بداخلك مبهم بالنسبة لي لا يمكن
أن يكون إلا صراخا، أما أنا فكان صراخي بصمت رفض لواقعي، أصرخ علني أفيق من هذا
الحلم الذي وقف بين شهيقي و زفيري و يكاد يقتلني بك.
ثمة جمال أراه
بعينيك و أعتقد بأنه كافٍ لأحب الحياة لكن الحياة لم تحبني كفاية حيث أني بعد كل
تأمل يخطفني من واقعي لأسبح بجمال عينيك أعود للواقع المرير بصراخك، و إن لم يقطع
تأملي صراخك قطعه صوت الدمى و هي ترتطم بالأرض و كأني بروحي أشاركها الارتطام.
تنام أنت بينما يجفوني النوم، أبكيك و أعيش أحلامي و التساؤلات: هل لك من دواء؟ هل
يمن الله عليّ و عليك بالشفاء؟ فأنا مريضة بك و أنت مصاب بالتوحد.
و يمضي ليلي
بالتساؤلات بلا إجابة، و تجيبني حين تصحو بصراخك فأعلم أنه لا مفر سوى الرضا و لا
حيلة سوى التعايش.
تتسلل الشمس من
النافذة لتجلي ليل البكاء و الحزن الثقيل، و يأتي الصباح و أي صباح أجد فيه والدك
نائم عند باب شقتنا بعد ليلة ملؤها الخمر . أنسته أن المفتاح بيده أو لعله ركل باب
الواقع البأس و اختار أن ينام أمام الباب ليطمئن أننا هنا و لا يتقاسم معنا رغيف
الشقاء.
والدك هذا الرجل
الذي له يد في قتل أملي في الحياة حين تركني وحيدة أواجه واقعي معك بمفردي، حين
أخبرني في نهاية نقاش محوره أنت حيث منذ ولادتك لم يكن لدي ما يشغلني سواك و انتهى
نقاشنا العقيم الذي أدمى قلبي حين قال:
"أنا تركت
أبوتي لج مع هالولد صيري أمه و أبوه وفكيني من هالدوخه"
رغم أني أحمل
بداخلي براكين غضب تود لو تثور على والدك إلا أنني بكل عقلانية لا أوجه له عتابا
فالعيش معك و لأجلك سوف ينسيه من يكون و سوف يعيده إلى الطفولة مجدداً كما عدت أنا
. أنا التي تمنيت مراراً أن أعود طفله، ها أنا الآن طفلة تشتهي أن تفارقها روحها
كي لا تعيش تأنيب الضمير على التقصير معك.
أعلم جيدا أن في
العالم الكثير من الأمهات خلف أبواب مؤصدة يعانين ما أعاني و يتجرعن ما أتجرع من
نفس كأس الألم، لكن هذا العالم أسقطني من حساباته حيث ذنبي أن لا شيء في الوجود
يشغلني سواك، فلا عائلة باتت تنتظر زيارتنا الأسبوعية بعد أن قررت أنا أن لا أعود
لمكان تشعر فيه أنت بالضجر و تملأه صراخا فوق الصراخ ، لم أغادر منزل والدي فقط بل
حتى الأشياء المحببة لدي فبعد أن وضعت يدك يا صغيري في كوب القهوة في أحد الصباحات
المثقلة باليأس و لم تشعر بأي ألم، شعرت أنا عوضا عنك بالألم و قررت مجددا أن لا
أشربها فقد ألمتني بك.
معك كثيرا ما
أغرق في بحر تأملاتي و لا أنجو إلا على رفرفة يديك و كأنك تحاول أن تطلق هذا
العالم الذي لا يفهمك و لا يفقه أن مثلك ملاك و أن ما سواك بعين أمك عدم، كما قررت
أمك مجددا أن لا شيء أثمن منك في عالمها.
ما أصعب
القرارات لكنها معك سهلة تخضع لقانون ضجرك فما لا تريد لا أريد دون نقاش أو
مجادلة، و كأنك أتيت لترتبني كما لا أشاء.
مضطرب أنت لكن
اضطرابي اليوم أشد قد تلقيت خبرا جفف الدم في شراييني فلا حيلة لي بهذا الأمر، أمك
يا صغيري تحمل مرض "السرطان" لكنها ليست خائفة على نفسها لأنها استأصلت
شعورها بنفسها و شعورك أصبح شعورها، خائفة جدا من واقع لا تجدني فيه و لن تجد
والدك، فهو رجل لا يتقن سوى الهروب ، يحب الكمال حتى أنه يرفضك "مو
صاحي" كما يعبر و هو لا يقبل بطفل مثلك أن يكون معه في أي حال، و لا يعلم
والدك بأنه طفل يشابهك لا يختلف عنك سوى أنه يصفع خدي متى شاء ليعود إلى عالمه
الخارجي و يتناسى تقصيره و أنت.
اليوم الثلاثاء
التاسع عشر من شهر يناير قلقه لكن ليس بسبب عمليتي التي أقرها الطبيب بعد أسبوع من
هذا اليوم، بل أن قلقي لأجلك. ترى من سيخاف عليك من هذا البرد و من سيساعدك في
ارتداء معطفك حين تسرع للشرفة لترى السيارات في الشارع المجاور ، و من سيجعل قلبه
معطفك في كل الفصول. كم تمنيت أنني لم أنجبك ليس لأنك توحدي بل لخوفي عليك من هذا
العالم، فالعالم الذي يليق بك أكثر رحمة يا صغيري من عالمنا هذا اللئيم.
بعد أن أخبرت
والدك بأن ثمة أمر على وشك أن يقع، قد لاح لي في عينيه خوف من المجهول، هو أيضا
خائف مثلي لكن ليس عليّ بل يخاف أن يواجهك و يلعب دوره الحقيقي كأب، و لو كان طفله
غيرك لكانت أبوته أقل شقاء كما يعتقد.
أنا التي تماهيت
فيك لكنك لم تتماهى مع أحزاني بل كنت تؤكدها لي على أرض الواقع ، أنا التي منذ
صباها تخاف وخز الإبر كيف لها أن تتشافى من هذا الخوف و تعانق خوفا أكبر؛ هو أنت و
مصيرك، و أنا أيضا تلك الصغيرة التي كثيرا ما مثلت على إخوتها أنها تسقط أرضا
وكأنها تجرب الموت، ها هي اليوم تهرب من حقيقة الموت لأجلك.
أن تسير بقدمك
إلى الموت و المرض ينهش جسدك أو أن تبقى قيد النفس الذي بين الروح و طلوعها، بين
الدنيا و البرزخ. ها أنا أكسر روتيني الليلي لأخرج من سلبيتي و من واقعي إلى معراج
البكاء حتى أواجه وقع الحياة عليّ إلى الكتابة في الثالثة فجرا حيث الهدوء غير
المعتاد معك، أعيش هذه الليالي الباقية لي لعلها بهدوء مفجع لا أسمع فيه سوى
أنفاسي و عقارب الساعة و كأنها تخبرني بأن أفعل ما بوسعي كي أترك ما يمكن أن يشفع
لي عندك و يصفح عن مغادرتي لعالمك. جفاني النوم أكثر و كأني أستعد لنوم أبدي
بالكثير من السهر، و ما يثير هلعي أن يقع ذلك.
لمن سأتركك يا
صغيري...
مؤمنه بأن الله
الذي أعطاني مثلك يا ملاكي سيرعاك أفضل من رعايتي و يتولاك، لكني قلقه بما يكفي
حتى لا يبقى لدي يقين أستظل به في حالتي هذه. يجلدني الواقع بكل وحشية و المرض
يأكلني و القلق لم يبق لي عقل.
مرت الأيام
برتابة مفرطة و حتى أيامي معك تشبهك كثيرا، تحب الرتابة أنت و هي لم تنتفض لذلك
سارت كما تعتاد. الليلة الأخيرة قبل الموت أعني العملية لعلها الأشد وقعا علي حتى
من خبر توحدك، فأنا الليلة أقترب نحو فقد حياتي حقا، و العجب أني لم أبالي و حتى
النفس الأخير أنت... أنت... أنت...
كم ساعة تفصلني
عن عمليتي التي لا أعلم بعدها هل أعود لأعانقك؟ أجدني أحببت حياتي البائسة معك و
أفضلها على أن أتركك وحيدا، أنت الذي حكمت علي أن أبقى وحيده و ليس لي سواك.
ساعة فقط بيني و
بين غرفة ملؤها الأجهزة و المعقمات و الأطباء، هذا الصباح الأخير الذي أراك فيه،
أتأملك بصمت عيناي لم تبك بل قلبي يعتصر ألما، ود لو يخترق أضلعي كي يحتضنك.
في طريقي إلى
المشفى مع والدك الذي لم أره قبل اليوم خائفا من قدر سيلقاه، جزعا مسبقا مما سيؤل
إليه أمري و أمرك.
ليس بوسعي يا
فلذة كبدي سوى أن أسلم أمري و أمرك لله، و أمضي إلى مصيري...
الثلاثاء
26/1/2016
أمك يا ملاكي.